"ما استدنته للعمل فقدته ولم أعمل".. كانت هذه العبارة فاتحة الشكوى من الشاب وائل سعدي، الذي تعرّض لعملية احتيال من أحد الوسطاء أو من يسمّيهم "السماسرة"؛ في محاولته لتسهيل حصوله على تصريح للعمل في الداخل المحتل.
أربعة أشهر مرّت تلقى خلالها سعدي "40 وعدًا" كما قال؛ بأن "إجراءات استصدار التصريح على وشك الانتهاءّ.. وأن الأمر مجرّد وقت"، ثم ردّد: "وقت.. وقت.. وقت.. خدعوني في النهاية".
عمال متضررون: وقعنا فريسة لسماسرة ووسطاء ومنهم محامين
حمل الشاب (33 عامًا) أوراقه- بعد أن أنهكه الانتظار- وتوجّه مدفوعًا بشعور القهر، إلى وزارة العمل واتحاد العمال؛ لتقديم شكوى بحق الوسيط، الذي اتضح أنه محامٍ يعمل في أحد مكاتب المحاماة وسط مدينة غزة.
استغل المحامي توجّه آلاف الشبان لاستصدار تصاريح العمل في الداخل؛ ورغبتهم بخوض أي محاولات ودفع أي ثمن للظفر بفرصة عمل، وأخذ يسوّق بأنه يمارس عمله في إطار المسارات المشروعة للحصول على التصريح بعد التواصل رسميًا مع هيئة الشؤون المدنية في رام الله.
وحتى مطلع العام 2022 كان يتم التقدّم عبر هيئة الشؤون المدنية والغرفة التجارية في غزة؛ للحصول على تصاريح عمل، قبل أن تصبح وزارة العمل هي البوابة الرئيسية لذلك عبر رابط إلكتروني.
مصادر أمنية: تحريات واستدعاءات لسماسرة خدعوا عمالًا
وتفيد أرقام وزارة العمل، التي اطلع عليها "معدّ التحقيق" بوجود 14 ألف تصريح عمل ساري المفعول حاليًا تحت بند "احتياجات اقتصادية"، منها 6 آلاف رشّحتهم وزارة العمل في غزة، بينما الباقين من هيئة الشؤون المدنية.
ويشير تقرير للأمم المتحدة إلى أن عدد العمال من قطاع غزة في الداخل المحتل بلغ حتى منتصف شهر سبتمبر/ أيلول 2022 نحو 16 ألف عامل.
وزارة العمل: سمعنا عن حالات كثيرة لمكاتب بهذا الخصوص وثبت فعلا وجود ابتزاز
ووفق وكيل وزارة العمل بغزة إيهاب الغصين؛ فإن "هناك نحو 4 آلاف تصريح ليسوا لعمال، وكانوا سابقًا، ويتم تجديدهم تلقائيًا بعيدًا عن معايير وزارة العمل".
ويبلغ عدد المتقدمين بطلب الحصول على تصريح للعمل في الداخل المحتل، عبر الرابط الإلكتروني، نحو 133 ألف عامل بغزة، وتفتح وزارة العمل أبوابها كل يوم ثلاثاء للتسجيل في مكاتبها.
ويوضح الغصين، في مقابلة مع "معدّ التحقيق" أن 118 ألف عامل تنطبق عليهم شروط التسجيل للعمل في الداخل، يتم ترتيبهم حسب معايير معلنة وفق نظام "تجميع النقاط" المعمول به لدى وزارة العمل، لافتًا إلى أنه منذ مارس/ آذار الماضي تم ترشيح 23197 اسمًا، وأن من صدر لهم تصريح أقل من 6 آلاف.
نيابة جرائم الأموال: تلقينا شكاوى بعضها ضد محامية لها "علاقات خاصة" مع الشؤون المدنية
وتزوّد وزارة العمل في غزة هيئة الشؤون المدنية، بين الحين والآخر، بدفعات جديدة من كشوفات المتقدمين للحصول على التصاريح.
تتبع هيئة الشؤون المدنية السلطة في رام الله مباشرة، وهي الجهة الرئيسة التي تتعامل مع إصدار تصاريح العمل، بالتنسيق مع الاحتلال، في مقرها بمدينة غزة.
آخر هذه الدفعات، كانت بتاريخ 29 سبتمبر/ أيلول الماضي، وشملت 1000 اسم، من أسماء أصحاب سجلات سنة 2019، وهذا يؤشر لحجم أعداد المتقدمين للعمل في الداخل المحتل.
نقيب العمال: هؤلاء المحامون يعملون في وضح النهار ويجمعون أموالًا من عمال غزة
هذا الأمر، فتح المجال، وفق شكاوى كثيرة استمع لها "معدّ التحقيق"، للعديد من الأشخاص والمكاتب؛ للعمل كسماسرة ووسطاء، ومنهم من يعمل في مهام نقابية، مثل محامين.
تحريات واستدعاءات
وتفيد مصادر أمنية لـ "معدّ التحقيق" بأن المحامين الذين تم استدعاؤهم على ذمّة التحقيق، بموجب شكاوى تقدّم بها مواطنون، اتضح أنهم كانوا يؤدون دور الوسيط أو السمسار.
وكشفت المصادر أن عملية الاستدعاء لمن وصفتهم بـ "المحتالين" ما زالت مستمرة، وقالت إنه "تبلّور تصوّر عند التحرّي بأن هناك علاقة لدى بعض المحامين مع مسؤول سياسي تنفيذي في رام الله"، يحتفظ "معدّ التحقيق" باسمه.
وفي إطار التحقيقات في القضية، تقدمت الأجهزة الأمنية بغزة، وفق المصادر، بطلب لدى هيئة الشؤون المدنية لتزويدها بتفاصيل أرقام تصاريح وأسماء أشخاص، وإجراء فحص وتحري للمراسلات بين محامين ومكاتب محاماة مع الهيئة.
نقيب المحامين: إذا وصلتنا شكاوى نحيلها فورًا إلى "مجالس تأديب"
وتتحرى الأجهزة الأمنية عن صفة الأشخاص الذين تقدموا بطلب الحصول على تصاريح، وكيف استقبلت هيئة الشؤون المدنية طلباتهم.
وتكشف المصادر أن عمل هؤلاء المحامين نشط بشكل أكبر أثناء فترة إقبال العمّال على فتح سجلات تجارية لدى وزارة الاقتصاد بغزة؛ كشرط للسماح بالحصول على تصاريح عمل في الداخل المحتل.
ويقول العامل "وائل سعدي" لـ "معد التحقيق": "المحامي الذي تواصلت معه أبلغني بأنه يعمل لدى الغرفة التجارية بغزة، وأقنعني بأن يفتح لي سجلًا تجاريًا عبر مكتبه، من أجل مساعدتي في منحي الأولوية للحصول على تصريح".
ويضيف "أذكر أنه حاول إقناعي بأنه ليس كل مكاتب المحاماة لديها القدرة في الغرفة التجارية على "زق الملف"، وفق وصفه بالعامية، أي إعطاءه الأولوية.
ويقول عامل آخر يدعى "سليم" لـ"معدّ التحقيق" إن "هذا الأمر صحيح؛ فأنا فتحت سجلًا تجاريًا عبر وزارة الاقتصاد مباشرة، وما زلت أنتظر حصولي على التصريح منذ عامين، قبل أن أقع فريسة أحدهم".
رفض سليم (36 عامًا) ذكر اسم عائلته خوفًا من منعه نهائيًا من الحصول على تصريح للعمل، ويواظب على مراجعة اتحاد العمل بغزة، بعد تقديمه شكوى بحق "وسيط" أغراه بدفع مبلغ 3 آلاف شيكل "كي لا ينتظر عامين آخرين"، كما أبلغه.
مؤسسة حقوقية: قضية عمال غزة يجب أن تتم "في إطار القانون"
تحت ظل شجرة ملاصقة لبوابة اتحاد العمال شمال مدينة غزة، التقى "معدّ التحقيق" الشاب "سليم" الذي قال بحرقة: "أنا واحد من مئات تعرضوا للخداع، وأخاف من التوجه للنيابة كي لا أُفاجأ بأن هذا السمسار قادر على حرماني الفرصة فعليًا"
.وينبه وكيل وزارة العمل بغزة إيهاب الغصين إلى أنه يوجد 19 ألف اسم رُفضوا من الاحتلال الإسرائيلي، منهم 9 آلاف ممن تم ترشيحهم عبر وزارة العمل.
ويكشف عن أن الشؤون المدنية اتفقت مع الاحتلال على رفع 300 اسم أسبوعيًا من العمال المرفوضين أمنيًا؛ لإعادة النظر فيهم.
من جانبه، يكشف مدير نيابة جرائم الأموال في قطاع غزة مؤنس حمودة، في حديث مع "معدّ التحقيق" أن النيابة تلقت عددًا محدودًا من الشكاوى، وكلها حول وعود بإمكانية الحصول على تصريح عمل.
واحدة من هذه الشكاوى، وفق حمودة، تعود لمحامية تأخذ مبالغ مالية من العمال تتراوح بين 1500-2000 دولار مقابل فتح سجل تجاري لهم، وتسهيل حصولهم على التصاريح عبر "علاقات خاصة" بها داخل هيئة الشؤون المدنية.
ويوضح أن مضمون كل الشكاوى يتمحور حول "أشخاص يظهرون بمظهر المتنفذ الذي لديه علاقات مع الشؤون المدنية ويستطيع تسهيل الحصول على تصريح عمل"، ويضيف "كل الشكاوى لها نفس الحكاية، ونفس الواقعة، ونفس النتيجة".
ويشير مدير نيابة جرائم الأموال إلى أن الشكاوى التي تلقتها النيابة هي من مواطنين، ولم يتحول لدى نيابة جرائم الأموال أي ملف من أي جهة "سوى أن بعض الجهات أبلغتنا بوجود تجاوزات في هذا الملف".
ويلمح إلى أن هناك خوف لدى العمال المتضررين من تقديم شكاوى للنيابة العامة ضد المحتالين، لذلك يقول: "الوسيط الذي تخاف أن تقدم فيه شكوى لكيلا يمنعك من الحصول على تصريح، هو فعليا لا يستطع أن يستصدر لك التصريح، وبالتالي لا يستطيع أن يمنعك".
وهنا، يؤكد وكيل وزارة العمل بغزة إيهاب الغصين أن "الابتزاز موجود دائمًا، وهو محاولة فاشلة دائمًا أيضًا"، لكنه يشدد على أن "الآلية الموجودة للتسجيل حاليًا لا يمكن لأحد أن يتجاوزها".
ويقول الغصين: "نحن دائما نخاطب المواطنين بألا يتجاوبوا مع هذا الابتزاز؛ لأنه لن يقوم أحد بمساعدتك في النهاية، في ظل وجود النظام الموحد المتبع".
ويضيف "بالفعل سمعنا عن حالات كثيرة لمكاتب (محاماة) بهذا الخصوص، وقدّم لنا مواطنون شكاوى، ونحن بدورنا نحوّل هذه الملفات فورًا إلى الجهات الأمنية المختصة للمتابعة والتحقيق"، مشددًا على أن "هناك أمور بالفعل تم ضبطها ووقفها عند حدها، وثبت فعلا وجود حالات ابتزاز".
ويشير إلى أن من وصفهم بـــــ "تجّار التصاريح" أو "سماسرة التصاريح" يقومون باستجلات تصاريح خارج الآلية المعمول بها لدى وزارة العمل، مستدركًا: "لكن هذه الآلية لا تسير في قطاع غزة، ونقول للمواطنين إنه لا علم لنا بأي شيء عن تصاريح المشغل".
في وضح النهار
يستقبل الاتحاد العام لنقابات العمال في قطاع غزة، إلى جانب وزارة العمل، الشكاوى من العمال بصفته النقابية.
ويكشف رئيس الاتحاد سامي العمصي، أن لديهم كشفًا بأسماء محامين ومكاتب محامين تقدم عمال بشكاوى ضدهم، ويقول لـ "معدّ التحقيق": "لا يعقل أن يعمل محامي في هذا المجال دون أن يكون مسنودًا من جهة معينة".
ويبدي العمصي استغرابه من عدم تعرضهم لأي مساءلة، مضيفًا "هؤلاء المحامون يعملون في وضح النهار، ويجمعون أموالًا من عمال غزة".
وتابع "نحن لسنا جهة قضائية أو حكومية لنحاسب على هذا الأمر.. راجعنا بعض مكاتب المحاماة، فمنهم من رفض الحديث والتعليق، ومنهم من رفض أن يقابلنا أصلًا، ومنهم من قال إننا نعمل بعلم الحكومة".
وفي هذا السياق، يقول نقيب المحامين في غزة صافي الدحدوح إنه لم يتقدم لنا شكوى ضد محامين من أصحاب المصلحة (عمال غزة)، مضيفًا في تعليق مقتضب لـ "معدّ التحقيق": "إذا وصلت شكاوى، أحيلها فورًا إلى مجالس تأديب، حسب اللوائح وسُلّم الوقائع".
وتحظر المادة (37) من لائحة آداب مهنة المحامي، "اتباع الوسائل غير المشروعة، كالترغيب أو الإيحاء بأي نفوذ، أو صلة حقيقية أو مزعومة، بأي جهة كانت، بقصد جلب الموكلين أو كسب القضايا، أو استخدام الوسطاء بمقابل أو بدونه".
طبقة فقيرة مهمشة
حصل "معدّ التحقيق" على بعض أسماء هؤلاء المحامين ومكاتب المحاماة التي تعمل كوسيط بأجر بين العمال وهيئة الشؤون المدنية، وتكرر الموقف نفسه برفض التعليق.
واتضح كذلك أن الشكاوى لدى اتحاد نقابات العمال لا يتم توثيقها باسم العامل نفسه؛ لخشيته من اكتشاف الشكوى ومنعه نهائيًا من الحصول على تصريح.
ويقول العمصي: "لا يوجد شكوى رسمية مكتوبة؛ فليس سهلًا أن أتوجه للقضاء دون شكوى أستند عليها".
ويضيف "كل شكاوى العمال شفهية.. بمجرد أن نخبر العامل بأننا سنتابع القضية، يرفض وينسحب حين يعرف أننا سنتابعها قانونيًا".
بينما يفيد مدير نيابة جرائم الأموال مؤنس حمودة بأن ما يصلهم من شكاوى "يتم فورًا التعامل معها على قاعدة إرجاع الحقوق ومحاسبة المتهمين".
ويشير إلى أن النيابة أصدرت تعليمات لجميع العاملين في نيابة المؤسسات وجرائم الأموال بأن يتم التعامل بالسرعة اللازمة مع هذه القضايا، وأن تدرج ضمن جدول الأعمال وأولويات العمل؛ لأنها تمسّ طبقة فقيرة مهمشة.
من جانبه، يشدد المستشار القانوني لمؤسسة الديمقراطية لحقوق العاملين "علي الجرجاوي" على أن قضية عمال غزة يجب أن تتم "في إطار القانون".
ويضيف الجرجاوي في حديث مع "معدّ التحقيق"، أنه "لابد أن يكون هناك دور لوزارة العمل باعتبارها الجهة الرئيسية المسؤولة عن تشغيل العامل؛ لأنه بناء على التشغيل سيكون لهم حقوق".
كما يوصي بضرورة توحيد الجهود بين وزارة العمل وهيئة الشؤون المدنية؛ من أجل خدمة العامل والتخفيف من "المنع الأمني".
وحتى ذلك الحين، يظل لسان عمال غزة ممن تعرضوا للاحتيال والنصب عبر سماسرة ووسطاء يعملون في مهنة المحاماة، يردد ما قاله أحد أساتذة القانون: "ليس المحامون محامين كلهم بالضرورة".
📹 إنفوفيديو صفا| عمال غزة بالداخل.. فريسة "محامين متنفذين"📹 إنفوفيديو صفا| عمال غزة بالداخل.. فريسة "محامين متنفذين"
Posted by وكالة صفا on Thursday, October 6, 2022