web site counter

غطّى الحرب وعاشها بعيدًا عن أسرته

محمد التلمس.. صحفي "صفا" الذي تنبض سيرته بالحياة

غزة- مدلين خلة - صفا
"محدش يحكي لي سامحيه على شو أسامحه بكل حياتي معه ما في له أي غلطة، يا ريت هو يسامحنا".. عبارات مثقلة بالوجع والألم تخرج من قلب الزوجة المكلومة على فقدان رفيق دربها، الذي جمعتها معه ذكريات جميلة لا تُمحى من ذاكرتها للأبد. 
نافذة على حياته تفتحها "أم أحمد" التلمس زوجة الشهيد الزميل الصحفي في وكالة "صفا" محمد التلمس، وتحكي قصة تحولت فيها السهرات الأسرية المفعمة بالحياة والسعادة إلى مأساة ذبلت فيها زهرة عمر صغارٍ فقدوا والدهم بغته، بعدما سرقت وحشية الاحتلال الإسرائيلي منهم "الملاذ الآمن والقلب الحنون".
تستذكر "أم أحمد" رحلة حياة بدأت عام 2007، واستمرت حتى أعلن محمد استسلامه لجرح بطنه ونزيفه الداخلي، ليرتقي شهيدًا صباح الثلاثاء الماضي 14 يناير 2025.
رحلة حياة
محطات متعددة للمعاناة سبقت وقوع الفاجعة عاشتها "أم أحمد" تُداري خوفها على رفيق دربها، الذي أصّر على إرسالها وأطفالها إلى جنوبي القطاع، يوم أن فتكت الحرب وضربت المجاعة أوصال شماله، في محاولة منه للنجاة بأرواحهم مع والده ووالدته وشقيقاته.
تتحامل "أم أحمد" على نفسها، وهي تروي لوكالة "صفا"، فصول الحكاية ووجعها، حين أُجبرت مُرغمة على النزوح جنوبي القطاع، مع اشتداد وتيرة القصف الإسرائيلي على حي الكرامة ومخيم الشاطئ، وباقي مناطق الشمال، تاركة قسرًا زوجها ومنزلها الذي يحمل ذكرياتها معه.
تقول: "يوم الجمعة الموافق 13/ 10/ 2023، كان يوم فراقي لمحمد، حيث اضطررت تحت كثافة القصف الإسرائيلي وبعد نزوح متكرر في عدة أماكن إلى جنوبي القطاع برفقة أهلي، بعد موافقة محمد على ذلك ورفضه القاطع مرافقتنا وترك الشمال".
ورافق "أم أحمد" في رحلة نزوحها ابنها أحمد وبناتها الأربع (تالا، فرح، لانا، وهيا)، إضافة إلى والدها ووالدتها وعدد من أقاربها.
ظنت "أم أحمد" بأن فصول المعاناة وصلت بابها الأخير لتتفاجأ أنها كانت بداية رحلة عذاب عنوانها "وحيدة تقود سفينتها دون محمد".
تضيف "ربما كان كابوسًا مرعبًا تمنيتُ الاستيقاظ منه على وقع خطوات محمد العائد من عمله يًنادي على صغاره ويحتضن ابنته هيا التي تعلقت بتلابيب ملابسه تنطق بعبارات متكسرة (بابا)، ليطير قلبه فرحًا بهذه الأحرف من فم آخر العنقود لديه".
وجع وألم
وعن رحلة النزوح، تتحدث "أم أحمد"، "بعد نزوحنا جنوبي القطاع كان دائم الاتصال معنا، وفي سياق إحدى المكالمات معه أخبرته مع بداية النزوح بأن ملابس الأطفال لا تكفيهم مع حلول الشتاء وانخفاض درجات الحرارة، لكني تفاجأت في اليوم التالي بباب البيت الذي أتواجد به يُقرع، ومحمد موجود أمامي يحمل معه أكياسا تحوي ملابس شتوية للأولاد استطاع جلبها من منزلنا في حي الكرامة، بعدما خاطر على حياته وذهب إلى هناك"، تقول أم أحمد.
وتضيف "كانت الفرحة كبيرة عند رؤيتنا له، أخذت والأطفال نلح عليه بالبقاء معنا، إلا أنه رفض قطعيًا ترك الشمال والنزوح جنوبًا، وكانت هذه آخر مرة نتقابل بها وجهًا لوجه".
وتتابع "مع اشتداد وطأة القصف وعدم وجود مكان يُؤّمن فيه محمد على والديه وشقيقتيه أصر عليهم بالنزوح جنوبًا وبقي هو وحيدًا في شمالي غزة، مصرًا على الصمود هناك وعدم تركه للاحتلال".
تشحن قلبها بالصبر، وهي تُعلق أحلام اللقاء الذي لم يكتب له الاكتمال على انتظارها مكالمة هاتفية تطمئن فيها على صحة محمد، بعد انقطاع كافة وسائل الاتصال في شمالي القطاع.
تحاول شحن طاقتها من كلمات مقتضبة تخرج من روح محمد وتستوطن قلبها، كي يبث فيها الأمل بالعودة القريبة وتلاشي سحابة الغمة في وقت أقرب إليها من شفق الصبح.
تقول"أم أحمد" والألم يعتصر قلبها: "بكل مكالمة كانت تحدث بينا وقت اشتداد الأزمة بالشمال وانقطاع الاتصال كنت دائمًا أستحلفه أن يهتم بحاله أكثر، وكان يرد بعبارة: بسيطة إلي ربنا كاتبه رح يصير، وقت كنت أحكي يا محمد والله تعبنا يرد عليا هانت ما ظل شي وبترجعوا قربت تخلص إن شاء الله".
وتضيف "بآخر اتصال بينا يوم الإصابة كانت هيا تحكي (بابا)، فرنيت عليه وصار يحكي معها ويسألها شو بدك أجيب لك وقت تروحي عندي، فجاوبته بلغتها المتقطعة (جاجة وبندورة) ".
وتتابع "وقتها محمد سألني بعتب إنت ما جبتي لهم، فرديت عليه لا جبت بس هيا (3 سنوات) بتحكي ما يدور حولها وما تأخذ بكلامها وصار يسأل كل بنت شو بدها وقت ترجع يكون مجهز لها".
قطع حديثنا حشرجات صوتها الذي اختلط ببكاء يحكي عن وجع استقر في قلب الزوجة المكلومة على فراق حبيب قلبها، "سألني بآخر اتصال أحمد كم صار طوله؟، هيا كبرت؟، كيف صاروا تالا وفرح ولانا؟، كان كثير يتمنى يشوف أولاده، دائمًا كان يردد قربت تخلص وحنجتمع عن قريب".
سيرة حسنة
وعن صفاته وسيرته العطرة، تتحدث "أم أحمد"، قائلة: "محمد كان الابن البار بأمه وأبوه، الأخ الحنون لأخواته، الأب وكل شيء لي ولأبنائه، صاحب القلب الطيب والصدر الرحب، صاحب السيرة الحسنة والأخلاق العالية عمره ما تخلف عن مساعدة الناس همهم كان همه، محمد كان عملة نادرة في زمن الفتن و المصاعب".
وتضيف "كان ملازمًا لأبيه بكل وقت وحين بحكم أنه ابنه الوحيد ويده بالدنيا، خاصة بعد تعب عمي وتدهور وضعه الصحي، إثر جلطة وورم يتقوقع في الدماغ، أدت إلى توقف جزئي للحركة لديه، فكان محمد يرفض ترك عمي وحيدًا وظل ملازما له حتى إصراره على نزوحهم جنوبًا خشية أن يصيبهم مكروه".
وتُكمل "كان محمد من أكثر الأشخاص تفانيًا وإخلاصًا في عمله، وحتى في تغطية حرب الإبادة، وكان لديه قدرة عالية على الفصل ما بين العمل وحياته الشخصية، مؤديا واجبه على أكمل وجه على الصعيدين العملي والشخصي".
تستجمع "أم أحمد" خيوط رحلة فرقتها عن رفيق دربها، تتمنى لو كانت على رأسه يوم إصابته تمسح حبات العرق التي أخذت تتساقط من جبينه، لتكون صورتها آخر ما تراه عيناه قبل أن يغلقهما للأبد.
تقول: "استشهد محمد وترك لي من ريحته ولد وأربع بنات، ترك لي وصيته بأن أربيهم تربية حسنة على ذات الطريق التي سار عليها في حياته".
وتضيف "عزائي الوحيد بعد استشهاده أنه استشهد مناجيًا ربه داعيًا إياه، مناديًا على أحمد مشتاقا للقائه، تاركًا لي ولأبنائه سيرة حسنة يتغنى بها كل من يذكر اسمه أمامه، لتكون حياته وسام شرف يزين جباه أبنائه".
وترى زوجة الزميل الشهيد أن حربها الحقيقية لم تبدأ بعد، فهي على أعتاب مرحلة لن يكون محمد موجودًا فيها، كونها ستكون الأب والأم لأبنائها، وستسعى خلالها لتنفيذ وصية محمد والسير على خطاه.
ر ش

/ تعليق عبر الفيس بوك