لم يرق لسلطات الاحتلال الإسرائيلي حالة الانتماء الوطني التي تتوسط الفلسطينيين، تجاه قراهم المهجرة في أراضي الـ48 المحتلة، بل إن هذه الحالة المتنامية، أصبحت تشكل مصدر أرق، مع تصاعد الزحف نحو هذه القرى، لزيارتها ورعايتها.
ولأن "إسرائيل" تدرك أن هذه الحالة الوطنية، تعكس تمسك الفلسطينيين بالإرث المتبقي فيها عن آبائهم وأجدادهم، ومشهدًا من مشاهد العودة؛ قررت تدمير هذا الإرث في جنح الظلام.
وبرز الأرق الإسرائيلي تجاه التمسك الشديد، في الجريمة المتكاملة الأركان، التي ارتكبتها عصابات الاحتلال قبل يومين، بهدم أحد أهم وأبرز المباني في قرية البصّة المهجرة قضاء عكا.
وهذه ليست القرية الأولى ولا المرة الأولى التي تتعرض فيها المبان الأثرية للهدم؛ فقد سبق أن أتت هذه العصابات على مقابر وكنائس ومساجد بقرى أخرى.
وهدمت سلطات الاحتلال، مبنى عائلة الخوري العريق في البصّة، والذي يتميز بهندسته المعمارية العريقة، التي جعلته مدرجًا ضمن منطقة مخصصة للصيانة والترميم، للحفاظ عليه.
إلا أن الاحتلال استبق ذلك، بالانقضاض على المبنى، وهدمه في أوقات الليل، حيث تفاجأ الفلسطينيون بسقوطه، وعمليات تجريف حوله.
إنكار الجريمة
ويقول المحامي وعضو الهيئة الإدارية لجمعية حقوق المهجرين في قرية البصّة، واكيم واكيم لوكالة "صفا": "إن الجريمة التي شهدتها البصّة، لم تخرج عن أيدي بلدية الاحتلال وجرافاته، سيما وأنها تقع ضمن ما يسمى نفوذ مستوطنة شلومو المقامة على جزء من أراضي البصّة".
ويضيف: "هم ينكرون هدم مبنى الخوري بالآليات، ويدعون أنه انهار منتصف الليل، لكن الكلام عار عن الصحة، خاصة وأن جرافات بلدية المستوطنة كانت تجري عمليات تجريف قرب المبنى، وتم بعد جهود منعهم ووقف هذه العمليات".
ويشدد بالقول "نحن نتحدث عن مبنى عريق أنشئ بمواد وطرق هندسية جعلته صامدًا منذ 90 عامًا حتى اليوم، ويحمل طابقين فوق الأرض، فلا يمكن أن ينهار وحده".
ويكمل واكيم: "فحص مهندسون المبنى مؤخرًا، حيث كنا نجهز لصيانته وتسييجه، إلا أنهم استبقوا خطتنا بهدمه".
خطوات لردع الاحتلال
ولا يريد الاحتلال الاكتفاء بجريمة هدم أعرق مبنى بالمنطقة؛ بل إن رئيس بلدية مستوطنة شلومو "غابي نعمان"، خرج صباح اليوم الأحد بتصريحات صحفية، قال فيها "نريد تسييج المسجد والكنيسة فيه لمنع الزوار من الدخول إلى هذه الأماكن".
ويشدد واكيم على أن هذه التصريحات تعكس نوايا الاحتلال من هدم المبنى والاعتداء على مباني القرى المهجرة، وتؤكد أن ما يجري هو عمل منظم".
وإزاء هذه الجريمة، تدرس الجهات الفلسطينية من جمعية حقوق المهجرين ولجنة متابعة عليا والأوقاف، وجماهير فلسطينية وناشطين بالإضافة لمحامين، اتخاذ خطوات للرد عليها، ووقف استهداف قرية البصّة.
وحسب واكيم، فإن الخطوات المدروسة "ستكون على مستوى الجريمة المرتكبة، بل إننا سنتخذ الخطوات اللازمة لحماية المقدسات التي تبقت بالقرى المهجرة، وصيانتها، ليس فقط للحفاظ عليها، وإنما تحضيرها لأن يستخدمها الأهالي للعبادة، وهو الهدف الذي نريد الوصول إليه".
وسبق أن استُخدم مسجد وكنيس قرية البصّة، كمكب نفايات وحظيرة أبقار للمستوطنين في مستوطنة "شلومو"، وهو ما أوقفه النضال الفلسطيني بالسنوات الأخيرة.
شبح مسيرات العودة
من جانبه، يقول رئيس جمعية حقوق المهجرين في الداخل المحتل، سليمان فحماوي لوكالة "صفا": "إن ما جرى في قرية البصّة يأتي ضمن سياسة ممنهجة لطمس كل معالم القرى المهجرة، وما تبقى فيها من مباني أو كنائس أو مساجد أو أي معلم فيها".
ويشير إلى أن الاحتلال قبل البصّة، كان قد اعتدى على مسجد قرية الصرفند المهجرة قرب الساحل، والذي كان واقفًا شامخًا منذ عقود، وتم تدميره، في محاولة لطمس المتبق من معالم القرية.
ويريد الاحتلال-وفق فحماوي- أن يمنع أهالي القرى المهجرة، من الدخول إليها والحفاظ على ما تبقى من مقدساتها.
"ونحن كجمعية وأهالي نعمل منذ 30 سنةً للحفاظ على هذه الأماكن؛ سواء بالأعمال التطوعية من تنظيف وزيارات وترميم، أو بطرق أخرى قانونية".
ويستدرك فحماوي حديثه: "لكن خفافيش الليل، تأتي وتهدم وتخرب دون محاسبة، كونها مدعومة وضمن عمل منظم لطمس المعالم، وبالتالي منع تلك الزيارات ومسيرات العودة التي تشتد نحو هذه القرى".
ويقيم معظم سكان قرية البصّة الأصليين الذين هجرتهم عصابات "إسرائيل" عام النكبة 1948، في شمال لبنان، آخرين في قرية معليا، مع العلم أن عدد سكانها بلغ في ذلك العام 3 آلاف نسمة.