لم تكن جريمة اغتيال الصحفية شيرين أبو عاقلة أول جريمة يرتكبها جيش الاحتلال تتوفر فيها أدلة دامغة على مسؤوليته عنها، وفي كل مرة كان الجيش يجد طريقة للمراوغة والإفلات من المساءلة والعقاب.
وتتبع "إسرائيل" عدة سيناريوهات للإفلات من المساءلة والعقاب، فتارة تراهن على الزمن ونسيان الأمر، وتارة بالتشكيك في رواية الضحية، وتارة أخرى بالمراهنة على عدم تحرك الطرف الآخر رسميا.
ومنذ اللحظات الأول لاستشهاد الصحافية شيرين أبو عاقلة بدا واضحًا أن "إسرائيل" لجأت إلى أساليبها القديمة للتنصل من مسؤوليتها عن الجريمة، بل وإلصاقها بالمقاومين الذين تصدوا لاقتحام مخيم جنين بما تيسر لهم من عتاد.
الناطق باسم جيش الاحتلال أفيخاي أدرعي سارع بعد ساعات قليلة للتضليل واتهام المقاومين بالجريمة، مستغلا مقطع فيديو يظهر فيه مقاوم يطلق النار وشبان آخرون يبتهجون بإصابة جندي.
وسرعان ما فضح ناشطون ومؤسسات حقوقية هذا التضليل عبر نشر خرائط ومقاطع فيديو أخرى تبين المسافة الكبيرة بين مكان ظهور المقاوم في المقطع الأول ومكان تواجد الصحفية أبو عاقلة وزملاؤها.
وتبين أن الصحفيين لم يكونوا في مرمى نيران المقاومين الذين تفصلهم عنهم مسافة 300 متر وتحول بينهم عشرات البنايات.
وبعد ظهور مزيد من الدلائل على تورط الاحتلال بالجريمة، بدأت حكومة الاحتلال ترسم خط العودة، فلجأت إلى طلب إجراء تحقيق مشترك لإظهار الحقيقة.
وكثيرا من تلجأ "إسرائيل" للتشكيك في رواية ضحاياها من خلال نشر أخبار مضللة ومفبركة، خاصة عندما يتعلق الأمر بقتل المدنيين والصحفيين، ووجود أدلة دامغة تدينها.
ففي العام 2018 اغتال قناص إسرائيلي الصحفي ياسر مرتجى خلال قيامه بتصوير مسيرات العودة على الحدود الشرقية لقطاع غزة.
وخرج وزير الحرب الإسرائيلي حينها أفيغدور ليبرمان بتصريح يبرر الجريمة، زاعما أن مرتجى كان يشغّل طائرة مسيّرة مزوّدة بكاميرا بهدف جمع معلومات عن الجنود الإسرائيليين المتمركزين على الحدود.
ومضى ليبرمان في تضليله زاعمًا أن مرتجى مرتبط بالذراع العسكري لحركة حماس، وأنه قيادي برتبة توازي رتبة نقيب، وكان يتلقى راتبا شهريا من حماس.
ولم يقدّم ليبرمان أي دليل على مزاعمه ولا أوضح ما إذا كان مرتجى وقت إصابته يشغّل طائرة مسيّرة.
أما جيش الاحتلال فعمد إلى المراوغة فادعى في بيان له أن ظروف الصحفيين الذين تعرضوا لإطلاق النار غير معروفة لديه، وأنه سيجري تحقيقاً بالأمر.
في حوادث أخرى، عمد الاحتلال لتبرير جريمته بالتذرع بالظروف الميدانية التي رافقت تلك الجرائم.
في أبريل 2008 استشهد مصور وكالة الأنباء العالمية "رويترز" فضل شناعة باستهدافه بقذيفة دبابة أثناء قيامه بعمله في منطقة جحر الديك جنوب شرق غزة.
وبعد أربعة أشهر من الجريمة، ردّ المحامي العام العسكري لقوات الاحتلال على احتجاج وكالة "رويترز" بأن طاقم الدبابة الذي قتل شناعة وعددا من المدنيين قد تصرف بشكل مناسب، ولن يواجه أية إجراءات قانونية.
وادعى أن الجنود لم يتمكنوا من تحديد طبيعة الجسم الموضوع أعلى الحامل، والتأكد بشكل يقيني ما إذا كان صاروخاً مضادًا للدبابات أم قذيفة مورتر أم كاميرا تلفزيون.
وفي جريمة أخرى، أعدم جنود الاحتلال الشاب إياد الحلاق (32 عامًا) وهو من ذوي الإعاقة الذهنية، بحجة عدم انصياعه لأوامرهم بالتوقف عند باب الأسباط بالبلدة القديمة في القدس المحتلة.
وبعد الجريمة، ادعت شرطة الاحتلال أن أفرادها اعتقدوا أن الحلاق كان يحمل سلاحًا بعد أن رصَدوا بيده شيئًا يشبه المُسدس.
وتبين لاحقًا أنه كان يحمل كيس قمامة المنزل للتخلص منه وهو في طريقه إلى مدرسة التعليم الخاص التي يدرس بها.
دولة فوق القانون
ويقول مدير مركز حريات للحقوق المدنية حلمي الأعرج إن "إسرائيل" لم تعتد أن تعترف أو تقر بالجرائم التي يرتكبها جيشها، وتحاول دائما محو آثار الجريمة وتضليل الرأي العام.
وأضاف لوكالة "صفا"، "حتى الجرائم التي اعترفت بها، فإنها نجحت بالتهرب من تحمل المسؤولية والمساءلة، ولم تحاسب أياً من القتلة".
ويؤكد أن هذه الجريمة فضحت "إسرائيل" وعرّت الاحتلال، كما حدث عند قصف برج الجلاء والمكاتب الإعلامية بغزة، وأن كل محاولاتها لتضليل العالم ستبوء بالفشل.
وأضاف أن العالم بات يعرف "إسرائيل" على حقيقتها، واختلف عن السابق، ففي الماضي لم يكن لمثل هذه الجريمة أن تحظى بهذا الزخم والتفاعل الدولي.
ويدعو الأعرج لتجهيز ملفات الجرائم الإسرائيلية من كافة النواحي والتوجه بها إلى القضاء الدولي والمحكمة الجنائية الدولية، وفي الوقت نفسه التحرك على المستوى السياسي والدبلوماسي.
وقال: "إذا لم نستطع محاسبة إسرائيل الآن فلا يعني أن نسكت ولا نتحرك، وسيأتي الوقت الذي نحاسبها فيه على كل جرائمها".
وأوضح أن آلية عمل المحكمة الجنائية الدولية بطيئة، لكن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم.
واعتبر أن الإدانات الدولية الشديدة على إعدام أبو عاقلة تأتي في سياق المحاسبة لـ"إسرائيل" وجزء من الثمن الذي تدفعه على هذه الجريمة.
وأيد الأعرج قرار رفض إجراء تحقيق مشترك، مشددا على ضرورة أن يتبعه التوجه للمحكمة الجنائية الدولية.
وقال: "يجب عدم القبول بإشراك إسرائيل في التحقيق، وإذا كانت جادة فلتقبل بلجنة تحقيق دولية".
وبيّن المنظومة القانونية الإسرائيلية تحمي القتلة الإسرائيليين، وهي منظومة عنصرية تميز بين الدم اليهودي والفلسطيني.