"في الثانية عشر ظهرًا، رأيت منامًا لكنه كان واقعًا يعيشه أهالي قطاع غزة على مدار 11 شهرًا، إذ أن بيتي الذي أقطنه قصف واستشهدت، لكن خلال نطقي للشهادة -التي لم أكملها- شعرت بأنني في عالم آخر وأكملتها هناك، نظرت حولي وجدت زوجتي وطفلي ذهبت إليهما وسرنا في طريق طويل يملؤه جماعات مع أناس كثر، لم أعرف أيًا منهم، كان في آخر الطريق أضواء ملونة عرفت حينها أنني بمكان غير الذي أعرفه، أكملنا سيرنا وإذ باثنين يوقفانني ويقولان لي: "أنت لست معهم، ارجع حتى نرى صبرك"، أكملت زوجتي وطفلي طريقهما وتركاني ملوحين لي بأيديهما، استيقظت على صوت أحدهما: "في واحد هان عايش".
بهذه الكلمات عبر الطبيب الثلاثيني علي النويري عن معاناته، فلم يكن فقد العائلة والبقاء وحيدًا الامتحان الأول له، بل إصابته التي أفقدته الحركة أثرت على نفسيته سلبًا، فقد كان يعمل جراحًا بمستشفى غزة الأوروبي بخانيونس، ثم وجد نفسه داخل عمليات مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح.
يعيش الطبيب النويري ضمن عائلة تتكون منه وزوجته الطبيبة إيناس النويري ونجلهما حسن صاحب الثلاث أعوام، إضافة إلى عشرة أشخاص آخرين في منزل مكون من ثلاث طوابق، قرر الاحتلال إبادة هذه العائلة بأحلامها ليبقى الطبيب وحيدًا مع كرسيه المتحرك ليكمل معركته بالحياة.
كان على رأس عمله بمستشفى شهداء الأقصى، جراح يسابق الموت إلى أرواح المصابين، يحاول جاهدًا أن ينتصر عليه لينقذ حياة مرضاه الذين يكتوي عليهم قلوب أحبائهم، يقضي يومه كاملًا بين قصص الموت وغرف العمليات في إبادة جماعية لم ترحم أحدًا.
كانت فرصته لإنقاذ حياة هؤلاء خمس دقائق فقط، يركض بين هذا وذاك، عليه أن يعالج عشرات الإصابات دفعة واحدة، يخوض ماراثون الموت والحياة، لينقذ أرواح بريئة قبل أن يسبقه الموت لها.
في ذلك اليوم، كان في طريق عودته للمنزل بحافلة العمل، التي كانت تسير كسلحفاة وسط ركام دمار خلفه القصف الإسرائيلي على مناطق القطاع كافة، ساعتان فقط فرصته الأخيرة للاجتماع بعائلته الصغيرة، كان طفله حسن يقف بباب المنزل ينتظر أن يحضر له قميصًا رياضيًا لنادي برشلونة، ولكن ظلت تلك الأمنية للصغير إلى قيام الساعة.
ساعات تفصله بين الحقيقة والسراب، خيال يسري طيفه بين ناظريه كان صوت أحدهم ينادي بكل ما فيه من قوة: "هنا شخص لا زال حيًا"، فحمله المنقذون وأخرجوه من بقايا منزله المدمر، ليعبر قائلًا: "كان ظهري يؤلمني، عندما تم رفعي نظرت للبيت ذو الطوابق الثلاثة وقد تحول لركام، فهمت عندها أن الجميع استشهد".
ويقول النويري لوكالة "صفا": "نقلت بسيارة الإسعاف لمستشفى العودة بالنصيرات، فاستقبلني زميل لي، أخذت أسأله عن زوجتي وطفلي ووالدي وشقيقي وباقي أفراد عائلتي، فكان يهدئ من روعي دون إجابة"، مضيفًا: "ثم تم نقلي إلى مستشفى شهداء الأقصى بدير البلح، وإلى الآن لا أعلم مصير عائلتي، إلا أن هناك صوتًا داخلي يخبرني أنهم ذهبوا جميعًا ولم يبقَ لي أحد".
فحوص توالت على جسد الطبيب الذي خرج من أنقاض قصف ثلاثة طوابق كانت تعمّر بالفرح والسرور، ليتبيّن معاناته من كسر بالعمود الفقري وعدم القدرة على تحريك القدمين، "وما زاد الطين بلة" أنه لا توجد إمكانات لتثبيت الفقرات، فكان النقل إلى مستشفى غزة الأوروبي وسيلة الطبيب ليمشي على عكازين مجددًا.
يكمل الطبيب النويري حديثه لـ"صفا"، "بعدما استيقظت من العملية سألت ابن عمي وأخبرني أن جميع العائلة استشهدت، لم يبقَ منهم أحد، شعرت حينها أن الدنيا أصبحت ترتدي ثوب الحداد باللون الأسود".
كانت صورة العائلة الجميلة بعقله ما تزال راسخة، فهو لم يلقِ نظرة الوداع على وجوههم المحروقة أو أجسادهم المقطعة أشلاء، بسبب تلك القنبلة اللعينة التي لم ترحمهم بل قطّعت أجسادهم بالكامل.