منذ بداية الحرب على قطاع غزة، استهدف الاحتلال الإسرائيلي معظم البنوك، ولم يتبق إلا أفرع محدودة خاصة في المنطقة الوسطى وجنوب القطاع، مما تسبب في أزمة مالية كبيرة لدى المواطنين عند صرف رواتبهم أو وصول حوالات خارجية من أعمالهم الحرة أو مساعدات من الأهل والأقارب في الخارج.
بدأت أزمة السيولة المالية تتكشف بعد شهور قليلة على الحرب، مما دفع عدد من أصحاب مكاتب الصرافة ومن اتخذ من "التكييش" مهنة جديدة له لاستغلال الأمر ورفع سعر العمولة حال موافقة "الزبون" على السحب من خلالهم.
وتتم عملية "التكييش" بتحويل المواطنين مبالغ مالية إلكترونيا لحسابات الوسطاء، مقابل حصولهم عليه نقدا، بعد خصم منه نسبة وصلت في بعض الأحيان إلى 25% مستغلين عدم تمكن العملاء من سحب أموالهم بسبب إغلاق البنوك ونقص السيولة في القطاع.
عبر هذا التقرير نسلط الضوء على معاناة المواطنين في الحصول على أموالهم وقت الحرب، والدور الرقابي للحد من استغلالهم وقت صرف رواتبهم وحوالاتهم المالية.
نسبة كبيرة
لم تتمكن مروة ياسين العاملة في جامعة خاصة في قطاع غزة من صرف راتبها للشهر العاشر على التوالي من بنك فلسطين لانعدام السيولة عدا عن محاولتها المتكررة من سحب راتبها عن طريق الصراف الآلي الوحيد في مدينة دير البلح لكنها لم تفلح.
تقول مروة وهي نازحة في مدينة خانيونس لمعد التقرير، إنه في إحدى المرات حين وصلتها رسالة عبر هاتفها من بنك فلسطين بتحويل راتبها، خرجت من الساعة السادسة صباحا من خانيونس إلى دير البلح حيث أحد أفرع بنك فلسطين.
تفاجأت بطابور طويل غير منظم تحكمه مجموعة ممن وصفتها بالعصابات التي تجبر الموظف على دفع مبلغ من المال فور صرف راتبه، موضحة أن المبلغ مقابل ما يدعون أنه تنظيم الأعداد الكبيرة للوصول إلى جهاز الصرافة، لكن تعتبر ما يجري"بلطجة".
بعد معاناة وساعات طويلة وصلت مروة إلى ماكينة الصرافة لتصرف ألفي شيكل، أخذ منها أحد (الأفراد المنظمين) مائتي شيكل عنوة ودون وجه حق، حتى أنها لم تتشكى عليه، بسبب غياب الجهات الحكومية قسرا نتيجة الحرب.
وتعلق مروة:" منح من يدعون تنظيم الطابور مائتي شيئا كثيرا، لكن في النهاية حصلت على راتبي لإعالة أفراد أسرتي المقيمين في الخيام".
وهنا موقف آخر يسرده وائل حسين – 35 عاما- من سكان مخيم النصيرات، حالته تشبه آلاف المواطنين، فقد حصل على حوالة مالية بقيمة ألفين وخمسمائة دولار من شقيقه في الخارج، وحاول كثيرا البحث عن محل صرافة مقابل عمولة قليلة مقابل السحب لكنه لم يجد إلا واحدا بنسبة 15%.
يقول:" المبلغ الذي حصل عليه الصراف يمكن أن يطعم عائلتي مدة يومين، واضطررنا أن نخبر ذوينا حال أرادوا إرسال حوالات مالية أن يرسلوا قيمة نسبة التكييش أيضا".
ويضيف حسين: لا نستطيع أن نتخذ خطوة للامتناع عن صرف الحوالات، لأننا بحاجة إلى المال فكل شيء سعره مضاعف عشر مرات عما قبل الحرب.
استغلال
في محافظة غزة وشمالها حيث تشتد وطأة الحرب وتزداد فيها المجاعة وانعدام مقومات الحياة، يقول الستيني أبو خالد صيام من حي التفاح،" أرسل لى ابني مبلغ 5 آلاف دولار، لم أستطع سحب الحوالة إلا بعد شهر ونصف (..) ترددت على مكاتب الصرافة والمعارف لكن لم يستجب أحد، فجميعهم أرادوا الحصول على ألف دولار مقابل تكييش المبلغ".
وأكمل قوله:" في وقت الحرب بالكاد تكفي المائة دولار لتوفير بعض الطعام بدء من شراء الحطب حتى تجهيزه".
وأشار إلى أن أحد أصحاب مكاتب الصرافة وافق أخيرا مقابل الحصول على 500 دولار بعد أيام من التفاوض.
بعد محاولات عدة ورفض الكثير من أصحاب مكاتب الصرافة الحديث عن النسبة الكبيرة التي يحصلون عليها مقابل صرف الأموال للمواطنين، تحدث أحدهم على مضض واكتفى بتعريف نفسه بكنيته "أبو عبد الرحمن"
بداية الحديث قال:" إن بنوك السلطة الفلسطينية شريكة في الأزمة من خلال إخفاء عملة الشيكل ووضع الدينار الأردني بديلا له في الصرافات المحدودة التي لا تزال تعمل".
وكشف عن أن بعض التجار يحصلون على السيولة بالتواطؤ مع مدراء البنوك ويساومون الصرافين عليها، كما أن تجار المواد الغذائية أو الخضراوات أو من يدفع ثمن بضاعته عبر التطبيق البنكي للموردين من الضفة الغربية يطلب عمولات عالية لقاء منحهم الصرافين المبالغ النقدية التي حصلوا عليها من السوق بعد بيع بضائعهم، مقابل التحويل إلكترونيا.
وتجدر الإشارة إلى أن سلطة النقد الفلسطينية قالت في بيانٍ لها صدر في شهر مارس من العام الجاري، إن قطاع غزة يواجه أزمة غير مسبوقة في وفرة السيولة النقدية بين أيدي الغزيين في الأسواق، وتتفاقم الأزمة مع خروج معظم أجهزة الصراف الآلي في مناطق عدة من قطاع غزة عن الخدمة.
وأشارت سلطة النقد إلى أن عددا من فروع البنوك ومقراتها تعرضت للتدمير، بسبب القصف الإسرائيلي وانقطاع التيار الكهربائي وتدهور الوضع الأمني.
وأكدت تقارير صحفية أن الاحتلال تعمد استهداف جميع أماكن تسليم الأموال، عدا عن قصف جميع أماكن الصرافات الآلية لبعض البنوك في غزة، خلال الحرب الطاحنة على غزة ، دمّر الاحتلال أو عطّل كل الفروع في شمال القطاع ووسطه، ولم يتبقّ أي فرع يعمل في القطاع، من أصل 56 فرعاً في كل القطاع.
ومن أصل 91 صرافاً آليّاً كانت تعمل في القطاع قبل الحرب، لم يتبقّ سوى صراف واحد في النصيرات.
في هذا السياق يعلق المختص الاقتصادي أحمد أبو قمر على سلوك سلطة النقد قائلا:" سلطة النقد وبعض البنوك، مشاركين في أزمة السيولة"، مشيراً إلى أن سلطة النقد لم تتخذ أياً من التدابير التي تحدّ من الأزمة، كتوفير سيولة من البنوك وفتح فروع أكبر لصرف الأموال وضمان عدم تكدس المواطنين وعملاء البنوك أمام الصرافات، كما لم تنجح بإدخال أي مبالغ لأسواق قطاع غزة .
ومع أنّ البنوك في فلسطين تخضع لإشراف سلطة النقد الفلسطينية التابعة للسلطة، فإنها تبقى تحت هيمنة شبه مطلقة لبنك إسرائيل المركزي.
ويعتقد أبو قمر أن تجاوز الأزمة يكمن في العمل على إدخال الأموال للبنوك عبر الوسطاء الدوليين، واستبدال الأوراق النقدية التالفة.
ورأى بضرورة وجود دور رقابي من قبل لجنة الطوارئ الحكومية ولو بالحد الأدنى على مكاتب الصرافة، وإيجاد تكاتف وطني ليساند المواطنين بعضهم بعيدا عن الاستغلال.