في مياه الصرف الصحي التي تتجمع في الشوارع وبين خيام النازحين جنوبي قطاع غزة، أظهرت نتائج فحوصات لعينات وجود الفيروس المسبب لشلل الأطفال في محافظتي خان يونس والوسطى، ما يشكل تهديدًا صحيًا حقيقيًا يُنذر بتعرض آلاف الأطفال للإصابة بهذه العدوى، ما لم يتم إدخال التطعيمات اللازمة للوقاية من المرض الخطير.
عشرة أشهر متواصلة من حرب الإبادة الجماعية الإسرائيلية على قطاع غزة كانت كفيلة بنشر الأوبئة والأمراض المعدية بين الغزيين، في ظل شح المياه النظيفة وقلة الاستحمام، وتدمير شبكات مياه الصرف الصحي، وتكدس آلاف الأطنان من النفايات في الشوارع، وكذلك منع الاحتلال إدخال مواد النظافة للقطاع.
بدورها، أعلنت وزارة الصحة أن قطاع غزة منطقة وباء لشلل الأطفال، محذرة من أن ذلك يشكل تهديدًا صحيًا لأهالي غزة، والدول المجاورة وانتكاسة لبرنامج استئصال شلل الأطفال عالميًا.
ونظرًا لخطورة هذا الفيروس على الأطفال الغزيين، كان لا بد لوكالة "صفا" تسليط الضوء على أعراضه ومخاطره، ومعرفه طرق الوقاية منه والقضاء عليه.
كارثة حقيقية
مدير مستشفى كمال عدوان حسام أبو صفية يقول: "حصلنا بشهادة من منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، على خمس عينات من مياه الصرف الصحي، خاصة من وسط القطاع، وتبين وجود الفيروس المسبب لشلل الأطفال من نوع (CVPV2) في مياه الصرف بخان يونس والوسطى".
ويوضح أبو صفية في حديث لوكالة "صفا"، أن الفيروس يُصيب الأطفال دون سن الخامسة، وخاصة أولئك الذين لم يتلقوا التطعيمات، بسبب منع إدخالها لغزة، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية.
ويضيف "نحن أمام كارثة حقيقية، ما لم يتم إدخال التطعيمات للقطاع، لأن الأطفال دون عمر الشهرين والـ4 و6 أشهر لم يتلقوا التطعيمات، وأيضًا من هم بعمر 18 شهرًا و5 أعوام، وهؤلاء هم الأكثر عرضة للإصابة بهذا الفيروس".
وحسب منظمة الصحة العالمية، فإنّ نسبة الأطفال في القطاع الذين تلقّوا اللقاح المضاد لشلل الأطفال قُدّرت بنحو 89%، في عام 2023، لكن معدّلات التحصين تتراجع، على خلفية ظروف الحرب الكارثية التي يواجهها الغزيون، فضلًا عن تدمير المنظومة الصحية في غزة.
ويتحدث أبو صفية عن فيروس شلل الأطفال ومخاطره، قائلًا: إن "هذا المرض يُصيب جذع النخاع الشوكي ويُسبب تلفًا بالأعقاب الطرفية، ويُؤثر على الجهاز الحركي، ويبدأ أولًا بشلل الساقين ثم ينتقل إلى الجهاز العضلي العلوي، ما يُسبب قصورًا يمكن أن يُنهي حياة الطفل".
أعراض الفيروس
وعن أعراض الفيروس، يوضح أن 70٪ من أعراضه شبيهة بأعراض الإنفلونزا، المتمثلة في آلام العضلات والحلق، وارتفاع طفيف بدرجات الحرارة، وقد تكون هناك أعراض غير واضحة، لكن في هذه المرحلة يمكن للطفل أن يتعافى دون معرفة أحد بأنه مصاب بشلل الأطفال.
ويضيف "لكن يمكن أن يكون الطفل في هذه الحالة مصدرًا للعدوى، والتي تنتقل إما عن طريق البراز، أو اللمس باستخدام الأطفال أدوات بعضهم الخاصة، أو اللُعاب أو من خلال مياه الصرف الصحي".
ويبين أن ما بين 20 إلى 24% من الحالات المصابة تكون في مراحل متقدمة، لكن نسبة الوفاة جراء هذا المرض قد تصل ما بين 10 إلى 15% من الأطفال المصابين.
ويتابع "كان العالم يتغنى بأنه سيتم استئصال الفيروس البولي (شلل الأطفال) نهائيًا خلال العام 2026 المقبل، لكن اليوم تفاجأنا بوجود هذا المرض في الصرف الصحي في القطاع".
"للأسف كل العوامل في قطاع غزة مهيأة أن يصيب هذا المرض الأطفال، نظرًا لوجود مياه الصرف الصحي في الشوارع وبين خيام النازحين، وكذلك عدم وجود أدوات تُساعد البلديات على إصلاح الأعطال، فضلًا عن تلوث المياه"، يقول أبو صفية.
ويشير إلى أن الأمراض والعدوى تنتقل بشكل أسرع في مراكز الإيواء والمدارس، مبينًا أن شلل الأطفال لا يوجد له علاج، وهو مرض خطير جدًا يمكن أن يُصيب أحيانًا الكبار من ذوي المناعة الضعيفة، أو مرضى السرطان، أو كبار السن الذين تتجاوز أعمارهم 70 و75 عامًا.
ويوضح أن نسبة إصابة الكبار بالمرض وإن كانت قليلة لا تتجاوز ما بين 1 إلى 3٪، إلا أنها تبقى تشكل تهديدًا لهم.
المخاطر وطرق الوقاية
وحول مخاطر فيروس شلل الأطفال، يقول مدير مستشفى كمال عدوان إن مخاطره كثيرة، تكمن في أن الطفل المصاب يمكن ألا تظهر عليه أعراض الإصابة، وبالتالي يكون مصدرًا لنقل العدوى، لأن فترة حضانة الفيروس تبدأ من 5 إلى 35 يومًا، وهذه الفترة يكون فيها الطفل مصابًا ولا تظهر عليه أعراض.
ويضيف أن 70% من الحالات التي تظهر عليها أعراض لا تكون على هيئة شلل، بل آلام في العضلات، وهي أعراض بعيدة عن شلل الأطفال وفقًا لمعرفة الطاقم الطبي.
ووفقًا لأبو صفية، فإن فيروس شلل الأطفال وانتشار الكبد الوبائي مع التلوث المعوي وعودة الكوليرا، كل هذه الأمراض تجمعت في آن واحد، ما يعني أن هذه الحرب حرب جرثومية تُدار بشكل ذكي باتجاه قطاع غزة.
ويتعمد الاحتلال- كما يؤكد أبو صفية- إيجاد البيئة المناسبة لانتشار هذه الفيروسات والبكتيريا والجراثيم من خلال عدم إدخال مياه نظيفة، وعدم توفر مياه للاستحمام، فضلًا عن التكدس السكاني، وعدم وجود التهوية المناسبة، وكذلك إصلاح شبكات مياه الصرف الصحي.
ويشير إلى أن "الغذاء الذي يقوي جهاز المناعة لدى الأطفال غير متوفر، ولاسيما في محافظتي غزة وشمالي القطاع، وما هو متوفر فقط بعض المعلبات والطحين، وهذا بحد ذاته مصيبة على الجهاز المناعي لدى الأطفال، ما يشكل خطرًا في المستقبل على صحتهم، لأن الطفل لا يحتاج إلى الخبز فقط بل يحتاج إلى الخضراوات والفواكه والزيوت واللحوم".
والوقاية من الفيروس تكون من خلال التطعيمات وهي الوسيلة الأولى والوحيدة لذلك، بالإضافة إلى إصلاح مياه الصرف الصحي بشكل عاجل، وإزالة التكدسات، وتوعية الناس بغسل اليدين وعدم استخدام الأدوات الشخصية الخاصة، وفق أبو صفية.
ويتابع "للأسف لا يوجد لدينا فحوصات تُظهر الحالات المصابة بالفيروس في حال وجود شكوك بذلك، لأننا محاصرون، وغير مسموح بإدخال أي معدات طبية إلى قطاع غزة".
ويطالب أبو صفية بضرورة أخذ عينات فورًا في حال الاشتباه بأي حالة كل فترة وأخرى، حتى يتم عزل الطفل ولا يكون مصدرًا لنقل العدى في أماكن تواجده.
ويؤكد أن العلاج الوحيد لهذا الفيروس هو التطعيم والوقاية، حتى لا يتم نقل العدوى إلى العشرات، بل للمئات من الأطفال.
ويبين أن "هناك بعض الحالات جنوبي القطاع يتراوح عددها بين 2 و3 لدينا شكوك واشتباه بإصابتها بالفيروس، وأيضًا هناك طفلة في الشمال وضعنا حولها علامة استفهام، وأرسلنا عينات لمنظمة الصحة العالمية بشأن تلك الحالات، وتم إرسالها للخارج لأجل الفحص، ونحن في انتظار النتائج".
ويقول: "نحن أمام كارثة كبيرة جدًا في حال تم اكتشاف إصابة أشخاص بهذا المرض، وكما قلت نحن وجدنا خمس عينات في مياه الصرف الصحي من خمس أماكن مختلفة، وبالتالي هذا يشكل تهديدًا حقيقيًا لحياة الأطفال في المنطقة الجنوبية من القطاع".
ويضيف "طلبنا من الصحة العالمية واليونيسيف أخذ عينات مثيلة من منطقة الشمال لفحص وجود الفيروس، وسيتم أخذها في الأيام القادمة لاستبعاد ما إذا كان الفيروس موجود في مياه الصرف الصحي بالشمال أم لا".
وحول كيفية التعامل مع الحالات المشتبه بها، يقول أبو صفية: "عالميًا لم يُقدم لهؤلاء شيء، لكن في حال وصل الطفل المصاب لمرحلة متقدمة بالمرض ووجود شلل في جهاز العمل التنفسي يتم وضعه على جهاز التنفس الصناعي، لكن للأسف أغلب هؤلاء يُفارقون الحياة".
ويكمل حديثه لوكالة "صفا": "رفعنا توصيات إلى منظمة الصحة العالمية وطالبنا بضرورة إدخال التطعيمات للأطفال في القطاع، وهناك صدى جيد ووعود بإدخال التطعيمات المطلوبة خلال الأسابيع المقبلة".
ويوجه مدير مستشفى كمال عدوان رسالة للعالم بأن ينظروا لما يحدث في غزة والشمال على وجه الخصوص بعين الإنسانية، خاصة أن هذا الفيروس قد يتنقل إلى البلاد المحيطة بغزة، والتي تستقبل وترسل وفود.
ويناشد بضرورة أخذ عينات من غزة والشمال بأسرع وقت ممكن حتى يتم التأكد من وجود الفيروس أو من عدمه، مع ضرورة اتخاذ إجراءات عملية لإصلاح شبكات الصرف الصحي، وإدخال مياه نظيفة إلى غزة، وأيضًا السماح بإدخال الطعام اللازم للأطفال بشتى أنواعه وأشكاله.
وكان مدير برنامج استئصال شلل الأطفال بمنظمة الصحة العالمية حامد جعفري أشار إلى أنه تم عرقلة برنامج الوقاية من شلل الأطفال في قطاع غزة بعد السابع من تشرين أول/ أكتوبر الماضي.
وأضاف "نحتاج إلى تنظيم 3 حملات تطعيم في قطاع غزة لمواجهة تفشي شلل الأطفال".
وحذر من أن تفشي شلل الأطفال في القطاع سيكون تهديدًا إقليميًا لكل دول المنطقة.