حي عنيد مقاوم، أهله مُتشبثون بأرضهم، لا يستكينون لحظة في الدفاع عنه، وقف وما زال سندًا منيعًا أمام الاجتياحات الإسرائيلية المتكررة، حتى تحول إلى "كابوس" يُؤرق الاحتلال في ظل استمرار حرب الإبادة على قطاع غزة.
على مساحة 9 آلاف دونم تقريبًا في قلب المدينة القديمة جنوب شرقي مدينة غزة، يقع حي الزيتون الذي تردد اسمه كثيرًا في وسائل الإعلام المختلفة ومواقع التواصل الاجتماعي منذ بداية الحرب على غزة، لما شكله من قلعة حصينة صامدة بمقاومتها وأهلها أمام توغلات الاحتلال وغطرسته التي لم تتوقف.
هذا الحي، الذي يتميز بكثرة أشجار الزيتون التي تُغطي معظم أراضيه الجنوبية، يُعد واحدًا من أقدم وأكبر أحياء مدينة غزة مساحةً، وثاني أكبرها سكانًا، إذ يبلغ عددهم 80 ألف نسمة.
منذ بدء العملية البرية في القطاع بداية تشرين ثاني/ نوفمبر الماضي، نال الحي الصامد النصيب الأكبر من الاجتياحات الإسرائيلية التي خلفت دمارًا هائلًا في منازله وبنيته التحتية، فضلًا عن استشهاد وإصابة المئات من أهله.
اعتداءات لا تتوقف
هذا الحي- كما يقول المواطن جلال عرفات أحد سكانه لوكالة "صفا"- يشكل درعًا واقيًا وحصنًا منيعًا لباقي أحياء غزة، كونه يتصدى بمقاومته لاجتياحات جيش الاحتلال، رغم تعرضه للتدمير والمجازر الوحشية.
ويضيف أن "حي الزيتون واحد من أكثر أحياء غزة التي تعرضت لاعتداءات الاحتلال وعملياته العسكرية البرية، كما تعرض للتدمير الواسع ولتغيير معالمه الجغرافية خلال الحرب المستمرة".
واجتياح الحي المتكرر- وفقًا لعرفات- يعد جزءًا من استراتيجية أوسع يستخدمها جيش الاحتلال في حربه، نظرًا لما يشكله من موقع استراتيجي، كونه يقع في منطقة محورية وحدودية بسبب قربه من محور "نتساريم" وتل الهوا، بالإضافة إلى تداخله مع أحياء أخرى، إذ يربط شارع (٨) جنوبي الحي بشارع الرشيد وتشعبه داخل أحياء أخرى مثل تل الهوا والصبرة والدرج.
ويوضح أن المناطق الواسعة والأراضي الزراعية تجعل الحي أكثر عرضة للاجتياحات، كما أنه يشكل النقطة الأولى للمواجهة، ومعروف بقوة المقاومة فيه.
وكان الحي على موعد مع أول توغل إسرائيلي في الحرب الحالية بمنتصف نوفمبر/ تشرين أول 2023، من جهته الجنوبية الغربية، ووصلت آليات الاحتلال حينها إلى منطقة "المصلبة" وشارع المدارس، وعمل الاحتلال على نسف وحرق وتدمير عدد من المنازل والبنية التحتية، إلا أن المقاومة أجبرته على التراجع إلى محيط شارع (١٠) جنوبًا.
ولم تتوقف مأساة الأهالي عند ذلك، ففي الثاني من كانون أول/ ديسمبر الماضي، أعاد جيش الاحتلال توغله في الحي من المناطق الجنوبية الشرقية، وبعد عدة أيام انسحب منه، مخلفًا أيضًا دمارًا في المباني السكنية البنية التحتية.
ويتابع عرفات أن الاحتلال لم يكتف بهذا التدمير والقتل، بل توغل مجددًا في الحي يوم 20 شباط/ فبراير الماضي، تحت غطاء كثيف من القصف المدفعي والجوي والأحزمة النارية، حتى تمركز في شارع (٨)، وبعد عشرة أيام من التدمير وارتكاب الجرائم بحق المواطنين انسحب من الحي، بفعل ما واجهه من مقاومة واشتباكات ضارية.
وفي فجر التاسع من أيار/ مايو المنصرم، كان الاجتياح الرابع للحي، والذي استمر أسبوعًا، وشهد عمليات قصف في محيط مسجد حسن البنا، وتدمير عدة بنايات سكنية ولاسيما في شارعي عياد والمدارس، وحرق مستوصف شهداء الزيتون، وشق طرق بين المنازل، وتدمير آبار المياه.
وأجبر القصف العنيف عشرات آلاف المواطنين على النزوح مجددًا من الحي، حفاظًا على حياتهم وسلامة أطفالهم.
وخلال اجتياحاته المتكررة، تكبد جيش الاحتلال خسائر فادحة في الضباط والجنود والآليات العسكرية، بفعل ما واجهه من مقاومة واشتباكات ضارية وكمائن وعمليات مركبة وتفجير للعديد من المباني المفخخة ضد قواته المتوغلة.
حكاية صمود
وما زال حي الزيتون يتعرض بشكل متواصل للقصف المدفعي والجوي، وسط إصرار الأهالي على البقاء والصمود فيه.
ومن أبشع وأبرز المجازر التي ارتكبها الاحتلال في حي الزيتون خلال حرب الإبادة المتواصلة، مجزرة مستشفى المعمداني التي أدت لاستشهاد نحو 500 مواطن.
وبهذا الصدد، يقول عرفات إن هذا يعبر عن مدى بشاعة الاحتلال وإجرامه بحق المدنيين والمستشفيات، التي تعتبر مكانًا آمنًا وفقًا للقرارات الدولية واتفاقيات جنيف.
ويوضح أن الاحتلال لم يضع هذه الأماكن تحت أي اعتبارات إنسانية، بل عمل على استهدافها وتدميرها، وارتكاب مجازر فيها.
ولم تسلم عائلات الحي من جرائم الاحتلال، فهناك عائلات مُسحت من السجل المدني، وهناك من فقدت أكثر من شهيد، مثل عائلات "عاشور، حسين، السرحي، الزعبوط، ارحيم، وخليفة"، فضلًا عن عشرات الجرحى والأسرى.
وعن حجم الدمار بالحي، يقول عرفات إن حجم الدمار هائل يفوق الـ97٪، بعدما أحرق ودمر جيش الاحتلال غالبية منازله إما جزئيًا أو كليًا، بفعل القصف المدفعي والجوي الذي شهده خلال الاجتياحات المتكررة له.
ففي الاجتياح الأخير للحي، تعمد الاحتلال إحراق أكثر من 75 منزلًا بمحاذاة مستوصف الزيتون ومنطقة "المصلبة" وشارع مسجد علي، عدا عن تدمير المستوصف الذي يخدم عشرات آلاف المواطنين سواء من أهالي الحي أو المناطق المحيطة به، وكذلك تدمير آبار المياه وشبكات الكهرباء والصرف الصحي.
حي عنيد
وعرفات واحد من سكان حي الزيتون الذين تضرر منزله وتم إحراقه في الاجتياح الأخير، وحين عودته لتفقده قرب منطقة "المصلبة" لم يعرف مكانه، من هول المشهد وتغيير معالم المنطقة، وحجم الدمار والركام الذي يفوق الخيال.
وما يميز هذا الحي وجود الكثير من المعالم الأثرية والتاريخية القديمة، أبرزها مسجد كاتب ولاية، ومستشفى المعمداني وحمام السمرة، وكنيسة القديس بريفيريوس.
ويصف عرفات في حديثه لوكالة "صفا"، الحي بأنه "عنيد ومثابر يتحدى عنجهية الاحتلال، وأهله متشبثون في أرضهم، رغم ما قدموه من تضحيات وشهداء".
ويضيف "لن نستسلم وسنواصل مقاومتنا للاحتلال حتى دحره عن أراضينا، ولن نترك بيوتنا حتى لو دُمرت وأُحرقت، سنعمرها من جديد".
ويوجه عرفات رسالة للعالم، قائلًا: "يجب عليكم التدخل العاجل لإجبار الاحتلال على وقف عدوانه ومجازره بحق أبناء شعبنا".