تستيقظ عائلة خالد العمارين على غير العادة دائمًا، على جلبة باعة مياه الشرب التي يشكون في صلاحيتها، فيصطحب الأب ابنيْه محمد وعبد الله، لحمل الدلاء ليعودوا بما يطفئ عطشهم مع حلول ساعات الظهيرة الحارقة.
في منطقة المواصي بخان يونس، تمتد عشرات آلاف الخيام التي تُخفي الرصيف وبعضًا من رمال الشاطئ التي لا يمكن للحفاة المشي فوقها مع انتصاف الشمس في السماء؛ ما يحوّل دلاء الماء تلك إلى أن تكون أقرب لتجهيز الشاي وليس الارتواء منها.
لكن حرارة ماء الشرب -إن كان صالحًا- لذلك حتمًا، ليس كل شيء؛ فجلبه من مصدره على بعد مئات الأمتار مشيًا أو انتظار عربة ماء قادمة غير محددة الموعد أو شاحنة نقل ماء لا يعلم بشر متى تعرض خزانها للغسل والتعقيم آخر مرة، كل ذلك يُضاف إلى قائمة هموم الوصول إلى الارتواء المأمول.
وعودةٌ إلى دهاليز الخيام المتراصة؛ ففي تلك الأجواء الصباحية الرطبة؛ لن يتركك الذباب للاستمتاع بنصف ساعة إضافية من النوم.
فأسراب الذباب القارص تغزو وجوه الطامحين بنوم دقائق إضافية بعدما انسحبت آخر بعوضة عن وجوههم وأجسادهم المرقّطة بلسعاتها.
قهوة بـ"وجه"!
كان ذلك في هواء خيمة أسرة العمارين، ومن يجاورونهم. أما الأرض فهي ليست كما يعتقد محبو التخييم في الجبال والصحاري والغابات؛ فالرمال والأتربة تغزو كل شيء حتى كوب قهوتك، فتعطيها "وجهًا" غباريًا وليس رغويًا كما يُحبها عشاق القهوة وجهها.
أرطال تلك الأتربة والرمال يمكن إيجادها أيضًا بين ألبسة النازحين المكدسة في أكياس أعلاف دوابهم التي حولوها إلى حقائب مؤقتة، عدا عن طبقات الغبار الناعمة التي يُمكن لمسها على مطعهم ومشربهم وفراشهم.
يقول خالد لوكالة "صفا": "كل يوم يمرّ بنا في هذه الخيمة، يكاد يكون مميتًا، آملين أن نفيق صباح يومٍ للرحيل منها".
ويصف خيمته القماشية المتصلة بقطع من الأقمشة وأخرى من أغطية النوم أنها: "جحيم، نار، حر وحرق، أجسادنا اسمرّت من شدة السخونة".
أما عن حِيَل تلك العائلة للتخفيف من وطأة الخيام، فهي بكل بساطة: عدم البقاء فيها ما أمكن طالما أن الشمس في السماء، إضافة إلى أن البقاء خارج الخيام أفضل بقليل، حيث قد تحظى بنسيمٍ حارٍ عابر لن تحلم به داخل تلك "القلاع" القماشية.
تلك الحيلة قد تكون مفيدةً للشبان والأطفال فحسب؛ أما النساء فلا يمكنهن -من الناحية الاجتماعية- على الأقل البقاء خارجًا طوال الوقت.
أماني (38 عاما) زوجة العمارين تقول: "لا يمكنني الجلوس بين الخيم طول الوقت، فالأمر أشبه أن تكون في الشارع، ولن أرضاه لنفسي أن أكون كذلك".
وتضيف: "شئتُ أم أبيت، فقد تحولت خيمتي إلى منزلي، ففيها أعمالي المنزلية التي لا تنتهي، عدا عن وجوب الاعتناء بأطفالي حتى لا يكتسبوا مزيدًا من السُمرة".
يُذكر أن جيش الاحتلال هجّر ما يزيد عن مليون فلسطيني من شمال قطاع غزة إلى جنوبه، منذ بداية الحرب المميتة التي شنّتها الخريف الماضي.
مستهدفة ولا مفر
ومن فرن الخيمة الحارق، إلى ما يزيد أجواء يوليو الموشك قدومه لهيبًا. فالموقد الصغير المصنوع من صفيح معلبات الدهن النباتي يشعل العمارين ناره كجرعة الدواء ثلاث مرات يوميًا، إفطارًا وغداءً وعشاءً.
فجمع القشَ من المحيط أو الاضطرار لشراء الأخشاب لإيقاد ناره للطهي أجبر صاحب الخيمة على نسيان غاز الطهي الذي أصبح كمن يبحث عن المجوهرات في الصحراء.
ويقول الأب المنهك من الأعمال المنزلية: "شهور ونحن على النار، يومنا هنا كألف سنة من العذاب، العمل لا ينتهي من أجل عائلتي".
ويتمتم قائلاً: "على الأقل لدينا ما يسد جوعنا وإن كان قليلاً، وربما يتكرر صنف الطعام في اليوم أو في الأسبوع مراتٍ عديدة".
ويبقى استهداف خيام النازحين توجسًا لا يغيب عن تفكير العمارين ومن يُسامرونه ليلاً؛ فتكرار حوادث الغارات الجوية الإسرائيلية على الخيام والتسبب في إحراق قاطنيها النائمين قلقٌ يُساور أولئك الآباء.
وبالرغم من أن جيش الاحتلال صنّف مناطق المواصي في خان يونس ورفح على أنها آمنة، وأجبر الأهالي على النزوح إليها طوال التسعة أشهر للعدوان؛ إلا أنه الجيش لا يتورّع عن استهدافها، وارتكاب مجازر مروعة بحقّ من فيها.
ويستدرك عمارين "لا مفر من الخيمة إلا خيمة، وكل مكان مستهدف في غزة، خيمة أو بيت".
ومع نهاية شهر يونيو، واستشراف فصل الصيف، فإن أقصى أماني سكان الخيام، ألا يقضونه فيها.
ويتساءل العمارين: "إذا كانت شمس ما مضى من شهورٍ لم نكن لنتحمّلها، فما بالُ شمس يوليو وأغسطس وسبتمبر؟ نسأل الله الرحمة".