أكدت محكمة الاستئناف في باريس أن الدعوة إلى مقاطعة المنتجات المستوردة من "إسرائيل" هي جزء من حرية التعبير السياسي.
وعليه، قضت المحكمة بأن مقاطعة المنتجات الإسرائيلية "قانونية"، وبأن الدعوة لها تشكل الهدف الرئيسي من تأسيس حملة "مقاطعة وعقوبات سحب الاستثمارات: مقاطعة دولة "إسرائيل" كمحتل ومستعمر" (بي دي إس فرانس).
يأتي ذلك استكمالا واعترافا بالحكم الذي أصدرته المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان يوم 11 يونيو/حزيران 2020 بناء على المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان. كما اعترفت محكمة النقض بذلك منذ ستة أشهر عندما قررت إحالة القضية إلى محكمة الاستئناف في باريس.
وكانت قد تمت إدانة 11 ناشطا بتهمة التحريض على التمييز الاقتصادي ضد الأفراد بسبب انتمائهم إلى دولة ما، مما دفعهم إلى التواصل مع المحكمة الأوروبية للطعن في إدانتهم من قبل المحاكم الفرنسية عقب التحركات التي دعت إلى المقاطعة والتي نُفذت في ضواحي مدينة ميلوز في عامي 2009 و2010.
لا خيار آخر
وتعليقا على هذا الحكم التاريخي والنهائي، قالت رئيسة جمعية "أورو ـ فلسطين" أوليفيا زيمور إن نتيجة المحكمة الأوروبية "كان من شأنها محو سجلات المدانين الجنائية، لكن محكمة النقض أرادت إسعاد اللوبي الإسرائيلي من خلال تحويل القضية إلى محكمة الاستئناف الباريسية لتؤكد في آخر المطاف القرار الأوروبي الأول".
وأكدت زيمور في حديثها للجزيرة نت أن "فرنسا لم يكن أمامها أي خيار آخر لأن الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان لها الأسبقية لفرض جميع التشريعات الوطنية للدول الأوروبية، كما أنها لا تملك قانونا يمنع مقاطعة إسرائيل أو المنتجات التي تصدرها".
وأضافت رئيسة الجمعية، التي شارك اثنان من أعضائها في الحملة، أن "قرار المحكمة لا يرضي اللوبي الصهيوني". وفيما يتعلق بالمقاطعة التي تمثل مسألة مهمة للغاية لإسرائيل وجماعات الضغط التابعة لها في مختلف الدول، فترى في قرار المحكمة "تأكيدا قانونيا لصالحنا".
من جانبها، وصفت المحامية دومينيك كوشان قرار الاستئناف بأنه "نهاية ملحمية" بدأت منذ 15 عاما على يد المحكمة الأوروبية، مشبهة -في حديث للجزيرة نت- حركة المقاطعة بتقديم برنامج تلفزيوني، إذ قالت "البرامج التلفزيونية قانونية، لكن لا ينبغي عليك التحريض على التمييز لتجنب الوقوع في فخ العقوبات".
شروط القرار
وشددت المحامية كوشان، التي تولت قضايا بعض النشطاء الذين تمت محاكمتهم في دعاوى قضائية رفعتها الوكالات الموالية لـ"إسرائيل" ضد المقاطعة، على أنه "لم يعد بإمكان مناصري إسرائيل القول إن المقاطعة غير قانونية، لكن على النشطاء الذين يرغبون في المشاركة في حملة جديدة عدم الإدلاء بأي عبارات عنصرية أو معادية للسامية حتى لا يستخدم ذلك ضدهم في المستقبل".
وهو ما أكده خبير القانون الدولي عبد المجيد مراري "إذا استخدم المقاطعون خطابات أو شعارات يعتبرها القانون الفرنسي عنصرية أو معادية للسامية، فسيتم تطبيق القانون وفقا لذلك".
وتابع، في حديثه للجزيرة نت، أنه "إذا كانت الحركة مرتبطة بمقاطعة المنتجات القادمة من الأراضي الفلسطينية المحتلة والتي يستغلها الاحتلال الإسرائيلي، فسيتم اعتبارها مقاطعة اقتصادية وموقفا مشروعا وقانونيا".
ويرى مراري، وهو مدير قسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة "أفدي"، أن توقيت إصدار هذا القرار يصب في مصلحة القضية الفلسطينية بشكل أساسي بعد أن لعبت المحكمة الأوروبية ـوهي أعلى جهة قضائية في أوروباـ الدور الذي تقوم به محكمة النقض في العادة.
اجتهاد قضائي أوروبي
واعتبرت المحامية كوشان أن "الهدف من القرار يتمثل في إلغاء الإدانة التي صدرت بشكل غير عادل ضد الأشخاص الذين نفذوا إجراءات المقاطعة، وهكذا امتثلت محكمة الاستئناف لقرار المحكمة العليا الأوروبية، مما يعني أنه يمكن تطبيقه على جميع الدول الأوروبية من دون استثناء".
ويعد المسار القضائي لهذا النوع من الملفات في فرنسا طويلا للغاية، لأنه يتضمن تحقيقات معمقة ويتم التعامل معه على أنه ملف سياسي أكثر منه قضائي.
ويفسر مراري ذلك قائلا إن النيابة العامة تضع بعض الملفات في الحفظ لتستخدمها في بعض الأوقات الحرجة "فعلى سبيل المثال، تحرك هذا الملف مجددا عندما اشتدت الحرب بين فلسطين وإسرائيل في عام 2014، وهو ما يثبت أن الدولة الفرنسية تستخدم هذه الورقة دائما ضد مناصري القضية الفلسطينية".
وأضاف مراري أن هذا القرار سيسهم في إسقاط جميع المتابعات والملفات الأخرى المتعلقة بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، بما في ذلك قضية اعتقال نشطاء في عام 2021 عقب قيامهم بحملة مقاطعة في متجر كارفور بضواحي باريس.
ويعتقد خبير القانون الدولي أن أهمية القرار تكمن في إعادة الثقة في القضاء الفرنسي والأوروبي بصفة عامة، فضلا عن تأسيس اجتهاد قضائي يمكن الاستناد عليه في ظل وجود فراغ تشريعي يتعلق بالمقاطعة، "واليوم، أصبح لدينا قاعدة قانونية تنص على أن المقاطعة تدخل ضمن حرية الرأي والتعبير".
إدانة فرنسا
وقبل أربع سنوات، قضت محكمة ستراسبورغ بالإجماع بأن فرنسا انتهكت المادة 10 من الاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان، حيث ذكّرت بأن هذه المادة "لا تترك أي مجال لقيود حرية التعبير في مجال الخطاب السياسي أو المسائل ذات الاهتمام العام، ما لم تتحول إلى دعوة للعنف أو الكراهية أو التعصب".
وقد حرص القضاة آنذاك على الاستشهاد بمقرر الأمم المتحدة الخاص المعني بحرية الدين أو المعتقد، والذي أشار إلى أنه "في القانون الدولي، تعتبر المقاطعة شكلا مشروعا للتعبير السياسي، وأن المظاهرات السلمية الداعمة للمقاطعة تقع عموما ضمن نطاق حرية التعبير المشروعة والتي يجب حمايتها".
وفي نص قرار المحكمة الأوروبية، أدينت فرنسا وأُمرت بدفع مبلغ 380 يورو تعويضا عن الأضرار المادية، و7 آلاف يورو تعويضا عن الضرر المعنوي لكل من مقدمي الطلبات، فضلا عن 20 ألف يورو للتكاليف والنفقات.
وبالتالي، ترى أوليفيا زيمور أن الانتصار القضائي تم تحقيقه بالفعل عند إرغام فرنسا على دفع تعويضات تبلغ 100 ألف يورو للنشطاء بعد تبرئتهم.
في حين أوضح مراري أنه "بعد إثبات خرق فرنسا لأهم مبدأ في الاتفاقية الأوروبية، أصبح من الممكن للمدانين المطالبة بتنفيذ التعويض المالي في إجراء منفصل". ولفت إلى أن الجمهوريين الفرنسيين أرادوا في السابق تقديم مشروع قانون لتجريم مقاطعة المنتجات الإسرائيلية، كما حاولوا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول الماضي تجريم كلمة "الصهيونية" وإدراجها ضمن معاداة السامية ومنع وصف "إسرائيل" بـ"المحتل".
المصدر : الجزيرة