"لم أعد أطيق حتى إعداد الطعام، فكل طبخة تأخذني بالذكريات إلى أحد الأحبة الغائبين"، هكذا أوجزت شادية غنيم "أم شادي" واقعها الصعب في شهر رمضان المبارك، في ظل غياب خمسة من أفراد أسرتها، إما شهادةً أو سجنًا أو مطاردةً، والجاني واحد هو الاحتلال الإسرائيلي.
ذكريات مؤلمة
قبيل موعد الإفطار تجلس "أم شادي" في منزلها ببلدة برقين غربي جنين، وحولها صور اثنين من أبنائها الشهداء وثالث أسير ورابع مطارد، وفي الجهة المقابلة صورة زوجها الأسير أيضًا، وبالنسبة لها فإن "شهر رمضان هذا العام تحوّل لشهر الوجع والألم".
لا تفارق صورة نجلها الشهيد "نور" مخيلتها حين كان يعود من عمله يوميًا خلال شهر رمضان ليأخذ قسطًا من الراحة، ويطلب منها إيقاظه قبل أذان المغرب بخمس دقائق فقط.
"في كل يوم من هذا الشهر وقبل الأذان بخمس دقائق، أستشعر أنه يجب عليّ التوجه لغرفة نور لإيقاظه من النوم، لكن سريره الآن، بات فارغًا وإلى الأبد"، تقول "أم شادي" لمراسل وكالة"صفا"، وقلبها يعتصره من الألم.
أما نجلها "محمد"، الشهيد الثاني، فكان معروفًا بمفاجآته السعيدة لوالدته، إذ كان يتعمد إخفاء موعد عودته بعد أسابيع من العمل في الداخل المحتل، ويكون حاضرًا أمامها قبيل موعد الإفطار بدقائق.
واستشهد الشقيقان نور الدين (25 عامًا)، ومحمد (28 عامًا) سوياً، خلال المجزرة التي ارتكبتها قوات الاحتلال الإسرائيلي في مخيم جنين، يوم الخميس 26/1/2023 وأسفرت عن ارتقاء عشرة شهداء وإصابة نحو عشرين آخرين.
غياب الزوج والابن البِكر
يغيب عن مائدة "أم شادي" بالإضافة لنجليها الشهيدين، زوجها سامي غنيم، الذي اعتقله الاحتلال في 17/1/2023، في سبيل الضغط عليه لتسليم أنجاله المطاردين، وحوّله للاعتقال الإداري مدة ستة أشهر، وما زال يجدد اعتقاله تلقائياً بعيد انتهاء كل تمديد.
في هذه الظروف، يتقمّص "مجد" (3 أعوام) حفيد "أم شادي" من ولدها "أحمد" دور جدّه، ويجلس يوميًا على كرسيّ كبير الأسرة، ويقول: "سأبقى هنا حتى يعود جدي من السجن".
وتضيف غنيم: "إذا كان الطفل الصغير يشعر بالفَقد رغم صغر سِنه، فكيف بنا نحن الكبار؟!".
قبل أكثر من سنة، وبالتحديد في (7/2/2023)، اعتقلت قوات الاحتلال نجلها البِكر شادي (36 عامًا) وحوّلته للاعتقال الإداري مدة ستة أشهر، وجدد له الاعتقال ثلاث مرات، وترك مقعده شاغراً أيضاً في شهر رمضان.
مطارَدٌ للاحتلال
ثمة مقعد خامس شاغر على مائدة الإفطار، فهو مخصص لنجلها "أحمد"، الذي استهدفه الاحتلال مع أشقائه في مخيم جنين، وأصيب بجراح، "لكن لطف الله كتب له عمراً جديداً".
"وبحكم الخطر المحدق به؛ يغيب أحمد، الأب لولدين وبنتين، عن مائدتنا ليبقى بعيداً عن عيون الاحتلال"، تقول والدته المكلومة.
تواجه "أم شادي" الكثير من الألم حين تتوجه لإعداد الطعام، فكل وجبة لها من الذكريات الخاصة لأحد أفراد الأسرة، لذلك "وجبتنا خفيفة تهدف فقط لكسر صيامنا، ولِتُعيننا على إكمال حياتنا والوقوف على أرجلنا".
صابرون وصامدون
ووسط كل هذا الألم، تجد الوالدة ما يُسرِّي عنها؛ "فشعوري بأن ولدَي في مراتب عالية من الجنة، وأن الصابرين يُوَفّون أجرهم بغير حساب، يخففان عني الكثير من الألم".
كما أن "المسجد الأقصى يستحق كل هذه التضحية، والتحرير يستحق"، وفق الوالدة الصابرة.
وعن هدف الاحتلال من كل هذا التنكيل بالأسرة تقول أم شادي إن "الاحتلال يسعى لتدميرنا وكسرنا، لكننا صابرون، وما نعاني منه، تعاني منه كل أمهات الشهداء والأسرى".
وحول رسالتها للعالم تقول: "للأسف العالم كله يشاهد ما يحدث للفلسطيني يومياً، خاصة في قطاع غزة، ولا أحد يهتم بما يحصل لنا، لكننا كفلسطينيين مصممون على الاستمرار حتى التحرير، ولا يمكن أن نتوقف بعد كل هذه التضحيات".