"وكأني في سباق مع الشمس في شروقها وغروبها"، وصفت المواطنة الغزاوية راوية عوض روتين حياتها اليومي، منذ أن اضطرت إلى النزوح بأسرتها من منزلها في بلدة عبسان الكبيرة شرق مدينة خان يونس في جنوب قطاع غزة.
ومنذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع في 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، خاضت هذه الفلسطينية الثلاثينية تجربة النزوح مرات عدة، هربا بأسرتها من مكان إلى مكان، بحثا عن أمان مفقود في هذه البقعة الجغرافية الصغيرة.
وفي خيمة صغيرة على مقربة من الحدود الفلسطينية المصرية في مدينة رفح، تقيم راوية مع وزوجها وأطفالهما الأربعة، وتتساءل بنبرة تحمل كثيرا من الشك والخوف "ماذا بعد هذه الخيمة؟ أين سننزح مرة أخرى؟".
انقلاب حياة
تقول راوية التي كانت تعمل معلمة في مدرسة ابتدائية "حياتنا انقلبت رأسا على عقب"، فهي لم تجد مكانا يؤويها وأسرتها في أي إحدى مئات المدارس، التي تحولت إلى مراكز إيواء مكتظة بمئات آلاف النازحين، الذين أجبرتهم الحرب على هجر منازلهم.
كانت رحلة نزوح طويلة وشاقة بالنسبة لهذه الأسرة التي تنقلت في أماكن عدة داخل مدينة خان يونس، قبل أن تجبرهم قوات الاحتلال بالوعيد والتهديد المترافقين مع اجتياح بري واسع للمدينة وجرائم مروعة، على النزوح إلى مدينة رفح.
وتشير تقديرات دولية إلى أن رفح تكتظ حاليا بنحو مليون ونصف المليون شخص، بين سكانها الأصليين والنازحين إليها.
تتذكر راوية أيامها السابقة، وتقول "كنت أستيقظ في الصباح الباكر لإعداد وجبة الفطور لأبنائي وتجهيزهم ونفسي للذهاب إلى المدرسة، فأين مدارسنا وحياتنا؟، أشعر وكأنني في كابوس مرعب، هذه الحياة لا تشبهنا ولا نريدها أن تستمر، متى يتحرك العالم لوقف هذا الإجرام؟"، تقول ذلك وهي تجول ببصرها في الخيمة الصغيرة بمحتوياتها البسيطة المتواضعة.
لا تستطيع هذه الأم النوم ليلا قلقا على أطفالها، وتستيقظ فزعة مرات كثيرة، بفعل غارات جوية إسرائيلية لا تتوقف على مسافة قريبة منها تستهدف أراضي ومنازل متاخمة للحدود مع مصر.
وقبل شروق الشمس تبدأ رحلة راوية اليومية للعناية بأسرتها والبحث عن الطعام والماء، ومحاولة إيجاد الدواء لطفلتيها جوري (11 عاما) المريضة بالصرع، وجمان (12 عاما) المريضة بـ"متلازمة جيفا"، وتعاني من أجل توفيره لندرته وغلاء ثمنه.
وبسبب معاناة زوجها من ضعف بالبصر وفقده عمله البسيط في إصلاح الغسالات، تتحمل راوية أعباء أسرتها وتوفير احتياجاتها، في ظل واقع معيشي متردٍ، وشح المساعدات الإنسانية الواردة عبر معبر رفح البري مع مصر، الخاضعة لرقابة وقيود إسرائيلية شديدة.
وتقدر منظمات دولية أن هذه المساعدات لا تسد سوى 5% فقط من الاحتياجات الأساسية لنحو 2.2 مليون نسمة من الغزيين، أجبرت الحرب أكثر من 85% منهم على مغادرة منازلهم والنزوح إلى الخيام ومراكز الإيواء.
بؤس يومي
كما أغلبية النازحين، تقتات راوية وأسرتها يوميا على القليل المتوفر من المواد الغذائية المعلبة، تصفها بأنها "لا طعم ولا لون ولا رائحة، وبعضها شارفت صلاحيته على الانتهاء"، وأحيانا تحظى بكمية طعام قليلة من "تكية خيرية" قريبة من خيمتها.
وبأسلوب طفولي قالت ابنتها جوري "من زمان ما أكلنا لحمة ودجاج"، وارتفعت أسعار اللحوم لنحو 4 أضعاف (الكيلو الواحد يباع بنحو 40 دولارا) ولا يتوفر بكميات كبيرة في الأسواق، فقد اختفى الدجاج الحي تماما بسبب دمار المزارع وعدم توفر الأعلاف.
تابعت راوية حديثها، وقد أخذت ابنتها في حضنها "نحتاج إلى واسطة من أجل شراء دجاجة مجمدة بأكثر من ضعف ثمنها الحقيقي، الدجاجة الصغيرة التي بالكاد تكفي شخصين تباع اليوم بـ60 شيكلا (حوالي 15 دولارا)، فمن يستطيع شراءها؟".
وتشكو هذه الأم النازحة من غياب الرقابة الرسمية على الأسواق، وتحكم فئة ممن وصفتهم بـ"تجار الحرب" بالأسعار، التي لا تناسب غالبية الناس ممن تركوا منازلهم وممتلكاتهم، ونزحوا بالملابس التي تستر أجسادهم فقط.
وتتقاضى راوية راتبا شهريا 1500 شيكل (حوالي 394 دولارا) تقول إنه لم يكن يكفيها مع ما يتقاضاه زوجها ياسر من عمله غير الثابت في إصلاح الغسالات، لتدبير شؤون أسرتها من مأكل ومشرب وعلاج. وياسر هو واحد ممن يطلق عليهم "عمال المياومة"، الذين يعتمد دخلهم على العمل اليومي، ويشكلون غالبية العمال في القطاع، الذي يعاني أساسا من معدلات مرتفعة من الفقر والبطالة، تفاقمت مع اندلاع الحرب وفقد هؤلاء أعمالهم.
روتين حرب
تعلمت راوية خلال أشهر الحرب مهارات لم تعتد عليها، وتقول "بسبب عملي كمعلمة مدرسة لم يكن لدي الوقت لإعداد الخبز المنزلي، وكنت أشتريه جاهزا من مخبز مجاور، أما اليوم استيقظ مبكرا لعجن الدقيق وتجهيزه من أجل الوقوف في طابور من النساء لخبزه على فرن من الطين".
ودمرت قوات الاحتلال غالبية المخابز في القطاع، فيما أغلق الكثير منها أبوابه بسبب أزمة نفاد الوقود وغاز الطهي، ويصطف الناس في طوابير تستنزف ساعات طويلة أمام مخبزين في مدينة رفح للحصول على ربطة واحدة من الخبز، تكفي أسرة من 5 أفراد ليوم واحد.
كل شيء تغير في حياة رواية وأسرتها، حتى دخول الحمام لم يعد أمرا سهلا، حيث لا خصوصية في حمام صغير ومتهالك مجاور لخيمتها، وطوال الحرب لم تحظ هي وأطفالها بفرصة للاستحمام الكامل بالمياه والصابون سوى مرات معدودة.
ولن تتوقف مأساة أسرة راوية بنهاية قريبة للحرب كما تتمنى، حيث لن يكون لها منزل تعود إليه، بعدما حولته غارة جوية إسرائيلية إلى كومة من الركام، لكنها تقول "ليتوقف مسلسل الدم، ومش مهم وين نسكن، حتى لو في خيمة فوق الأنقاض".
المصدر: الجزيرة نت