web site counter

للفلسطينيين فيها "مآرب أخرى"

الحرب تقفز ببورصة الحمير في غزة

غزة - محمد أبو قمر - صفا

ما إن يشق الصباح نوره بعد ليلة قاسية من القصف، وتهدأ أصوات الانفجارات بتوقيت الحرب على غزة، يُجهّز ماهر في الخمسينات من عمره عربة حماره قاصدا طريقه اليومي في البحث عن رزقه تحت نيران المدافع.

تغيرت أعمال ماهر هذه الأيام، فبينما كانت تقتصر قبل الحرب على نقل مواد تموينية من أمام مركز توزيع المساعدات التابع لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) بمخيم الشاطئ غربي مدينة غزة، إلا أنه بات الآن أكثر انشغالا بعدما تحولت عربات الحمير إلى الوسيلة الأكثر شيوعًا، عقب توقف السيارات عن الحركة قسرا مع نفاد وقودها منذ بداية الحرب على غزة.

يولي ماهر اهتماما كبيرا بحماره، ويحاول توفير وجبة طعام كافية له يوميا تعينه على قطع مسافات طويلة بعدما زاد الطلب عليه.

تتعدد المهام التي ينجزها الحمار يوميا، ما بين إيصال المواطنين لوجهاتهم اليومية، وحمل بعض مقتنياتهم بسبب اضطرارهم إلى النزوح من منطقة لأخرى هربًا من العدوان وبحثًا عن الأمان، ونقل مياهٍ للسكان من أماكن بعيدة؛ نظرا لتدمير البنية التحتية في معظم أنحاء المدينة، إضافة إلى نقل الشهداء والجرحى.

يسترق ماهر لحظات من وقت حماره المزدحم على غير العادة قبل الحرب، ليقطع مسافات طويلة ويلتقط قطعا من أخشاب الأشجار والأثاث المتناثرة في الشوارع بفعل القصف، لنقلها إلى منزله لاستخدامها في طهي الطعام، بعدما نفد الغاز المخصص لذلك منذ نحو خمسة أشهر.

يلجأ مالك الحمار إلى بيع ما يزيد عن حاجته اليومية من أخشاب إلى المواطنين بأسعار مرتفعة مقارنة مع أسعارها في السابق، نظرا لحاجة جميع المتواجدين في محافظتي غزة والشمال والبالغ تعدادهم نحو 600 ألف شخص لاستخدامها بسبب منع الاحتلال إدخال غاز الطهي لهم.

تسير حياة الرجل الخمسيني بوتيرة مغايرة للسابق، حيث يقطع يوميا عشرات الكيلو مترات بين الدمار والخراب الذي خلفه الاحتلال في غزة، ويشاهد ويسمع قصص الضحايا المؤلمة، التي لم تمر عليه طوال عقوده الخمسة.

"لم أكن أتوقع أن تتحول مهمتي في يوم ما إلى نقل جثث الشهداء للمستشفيات والمقابر، ولم أتخيل أن تصبح عربتي بديلا عن سيارة إسعاف أنقل المصابين اضطرارا عليها لأقرب نقطة طبية"، يقول ماهر.

وأصبحت عربة الحمار الخيار الوحيد للمواطنين من أجل تفقد أماكن سكنهم التي انسحبت منها قوات الاحتلال، علهم يتمكنون من تجاوز وعورة الطرق المدمرة، واستخراج ما تبقى سالما من مقتنيات منازلهم.

ويضيف مالك العربة "يذهب المواطنون متلهفين إلى منازلهم، يريدون الوصول إليها بأسرع وقت، وتهدأ أنفاسهم حال رأوها قائمة ولم تتدمر بفعل القصف، لكن المشهد على العربة يتحول إلى فاجعة وعويل حال وجدوا منازلهم سُوّيت بالأرض".

في السابق لم يكن مشهد السيدات مألوفًا وهن يتخذن من عربات الحمير وسيلة نقل كما يقول ماهر، وكن يتحرجن من ذلك حال اضطررن، لكن الحرب غيّرت كل شئ، إذ أصبحت محظوظة مَن تظفر بوسيلة نقل كهذه بعدما زاد الطلب عليها.

يخشى ماهر على حماره من أن يطاله القصف ويفقده، كما الكثير من الحيوانات التي نفقت بعدما أصابتها شظايا الصواريخ، ويحاول ليلا أن يضعه في مكان آمن؛ ولاسيما أن أسعاره قفزت بشكل ملحوظ مع بداية الحرب على غزة.

يقول الرجل الخمسيني الذي يغطي رأسه بقبعة صوفية، ويلف جسده بـ"جاكيت" ثقيل عله يقيه برد الشتاء: "الأسعار صارت نار رغم برودة الأجواء، كان سعر الحمار لا يتجاوز 300 دينارا أردنيا (نحو 1500 شيقل) بينما تجاوز الآن 1000 دينار (نحو 5000 شيقل)، وهذا وحده كفيل بأن أبذل كل ما في وسعي للمحافظة على حماري".

يسخر صاحب البشرة السمراء من الواقع السياسي الداكن، ويخشى مما يسمعه عن محاولة "إسرائيل" إنهاء عمل أونروا، التي كان يعتمد عليها في جمع قوته، وعمل حماره.

ويعتقد أن "القوى العالمية" تريد التلاعب بمستقبل غزة، ويكون لها أسهمًا تؤثر على مجريات الحرب، على غرار ما حدث في "بورصة الحمير". 

قطع صوت نهيق الحمار لحظات استغراب مالكه من استمرار التهديدات لغزة، رغم كل ما جرى فيها، وشبّه المواقف السياسية المتغيرة بمهام حماره التي تبدلت.

يرخي ماهر أذنيه لحديث المارة علّه يتسلل إلى سمعه أي من التطورات السياسية التي تنهي الإبادة الجماعية وتعيد حماره إلى مهامه السابقة، ويرجو أن تضع الحرب أوزارها وتغيب أصوات القصف وغارات الاحتلال، ويعود الناس إلى منازلهم وحياتهم المعتادة، حتى لو لم يعد الطلب متزايدًا على حماره.

أ ج/د ق

/ تعليق عبر الفيس بوك

تابعنا على تلجرام