كانت عقارب الساعة تشير إلى الـ6:36 دقيقة مساء، عندما بدأت أصوات الانفجارات العنيفة تتوالى دون انقطاع.
"الآن قصف عنيف مكثف في المنطقة الشمالية الغربية لمدينة غزة"، هذه الرسالة الأخيرة التي أرسل بها كاتب السطور إلى ديسك التحرير الإخباري في وكالة صفا، وبعدها انقطع الاتصال والانترنت كاملًا.
مع استمرار القصف المتواصل مساء يوم الجمعة الـ21 للعدوان على غزة علم الجميع هنا أن حزاما ناريا تنفذه طائرات الاحتلال في المناطق المجاورة.
ويُعرف الحزام الناري بعملية قصف مكثفة ومتواصلة تستهدف مساكن وشوارع ومفترقات طرق في منطقة معينة، يهدف الاحتلال من ورائها إلى تدمير المنطقة كاملة، وتقطيع أوصال الشوارع، وتخريب البنية التحتية، وقطع خطوط الكهرباء والماء والاتصالات.
داخل إحدى المدارس الحكومية التي اتخذها مئات النازحين مركزا للايواء، عاشت "صفا" لحظات عصيبة من القصف العنيف، تنقل بعضا من تفاصيلها التي أرعبت الأطفال والنساء والشيوخ وكل من في المدرسة.
ما إن تعالت أصوات الانفجارات حتى أخلى النازحون ساحة المدرسة، وهرعوا إلى غرف الصفوف (كل عائلة أو أكثر تتخذ من غرفة الصف الدراسي مكانا لها للاحتماء به).
في تلك اللحظات خيم الصمت على المدرسة، وكأن الخوف أوقف ألسنتهم عن التحرك، والجميع ينتظر في كل دقيقة أن توهج المناطق الغربية الظاهرة للجميع لهبا أحمر، يتبعه صوت انفجار قوي جدا.
مضت ستون دقيقة على هذا الحال، سُمع خلالها ما لا يقل عن ستين انفجارا، في أعنف ليلة يعيشها النازحون منذ بداية العدوان في السابع من أكتوبر.
ومع كل صوت انفجار يحاول الجميع أن يأخذ من جدران الصفوف ساترا لهم، ويحرصون على الابتعاد عن النوافذ الزجاجية خشية أن تنهار على رؤوسهم.
فجأة ومن بين الصمت المطبق ارتفع نحيب سيدة حامل بعدما تملكها الخوف، وهي التي انتظرت حملها منذ سبع سنوات مرت على زواجها، حينها حاول من في غرفة الصف تهدئتها، لكن دموعها الممزوجة بترديد كلمات (يا ربي، يا ربي) كانت طاغية طوال الليلة.
مرت ساعات وكأنها سنوات على أكثر من ألف شخص لجؤوا إلى المدرسة، ولم يستطع أي منهم النوم، والسبب ما يلفهم من خوف وانفجارات عنيفة، قبل أن تسقط إحدى الشظايا على ساحة المدرسة المغطاة بألواح "الزينكو".
في أحد الصفوف يبدو أن شابا انهار فجأة، ولم يعد عقله وجسده يحتملان كل هذه الانفجارات، وأخذ صوته يرتفع وهو يدعو الله بالنجاة من هول ما يدور، ودخل حالة من شد الأعصاب التي طرحته أرضا فاقدا للوعي، وتدخل عدد من الممرضين النازحين لتهدئته.
مع انقطاع الاتصالات والإنترنت لم يعد أحد يعلم ما يدور خارج أسوار المدرسة، وكل ما يمكن تخمينه هو أماكن متوقعة للقصف حسب اتجاه اللهب الذي يسبق صوت الانفجار.
كان الراديو الوسيلة الوحيدة المتاحة لبعض النازحين لمحاولة معرفة ما يجري، لكن مع تقطع الاتصالات توقفت جميع المحطات الإذاعية عن العمل بعدما فقدت التواصل مع مراسليها في الميدان.
ونجحت إذاعتا الأقصى والقدس فقط في نقل بث قناتي الجزيرة والميادين الفضائيتين اللتين اكتفى مراسلوهما في المحافظات برصد ما يدور حولهم أيضا، وغابت عنهم بقية المعلومات.
في غمرة الخوف ومع مرور الوقت ثقيلا حتى ساعات الفجر، لم ينس النازحون أقرباءهم في بقية المحافظات، لكنهم لم يجدوا أي وسيلة للتواصل معهم، واكتفوا بالدعاء لبعضهم بالسلامة والنجاة.
كل تفاصيل الليل المرعبة لخصها تساؤل رجل وسط القصف المتواصل عندما قال: "هو الصواريخ بتخلصش؟"، سؤال ذلك المسن أجابت عليه قوات الاحتلال عندما كشفت صبيحة اليوم التالي بأنها دكت المنطقة الشمالية الغربية لمدينة غزة خلال الليل بأكثر من 150 غارة.
ملاحظة/ بقيت الاتصالات والانترنت منقطعة لأكثر من 48 ساعة متواصلة، وعادت في بعض المناطق وغابت عن أخرى، وبقيت هذه المشاهد حبيسة لدى كاتبها، حتى عاد الاتصال له.