في عقده السابع داخل كرفان سيء التهوية.. نهاية غير متوقعة لرجلٍ لم يَعِش طفولته كأي طفلٍ في العالم؛ وتغرب لسنواتٍ طوال عن وطنه؛ خائضًا صولات وجولات قتال ضد الاحتلال الإسرائيلي، بعدما أصبحًا واحدًا من فدائيي منظمة التحرير الفلسطينية.
تلك النهاية الأليمة للفدائي علي أبو مغصيب (73عامًا)؛ لم تقتصر على ذلك؛ بل لم يعُد يعرف شيئًا عن زوجته وأبنائه الأربع منذ 20 سنةً تقريبًا.
تلك هي الملامح العامة لحياة أبو مغصيب؛ فلم يسمع منه ولا يهتم له سوى قِلة؛ كما أنه بلا معيل؛ فيما تكالبت عليه الأمراض؛ حتى بات يعيش بين كومةٍ من الأدوية والمُسكنات التي لم تُعد تُجدِ نفعًا في ذاك الجسد الذي ضاق درعًا من الأوجاع.
بداية الحكاية
في سن (12 عامًا)، همّ "أبو مغصيب" الذي يقطن دير البلح للرحيل بمفرده إلى الخليل للالتحاق في صفوف الفدائيين؛ ليمكث فيها أسبوعًا قبل أن يصل محطته الثانية في الأردن.
وفي المملكة، بدأ يتحقق مراده بعد أن نجح في الالتحاق في صفوف الفدائيين في مدينة جرش؛ وأرسلته منظمة التحرير لتلقي دورة مدفعية وصاعقة في مصر حين كان في الـ19 من عمره.
ثم عاد إلى عمّان مطلع السبعينيات، حينها وقعت اشتباكات "أيلول الأسود"، واعتقل على يد القوات الأردنية وسُجن سنةً ثم تم ترحيله لسوريا، ودخل مشفىً للأمراض النفسية سنةً أخرى.
إلا أن رحلة الترحيل لم تتوقف في دمشق؛ فما لبث أن رحّلته السلطات السورية غربًا إلى لبنان؛ ليعود لاستكمال رحلة في صفوف الفدائيين في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين؛ بعدما اقترن بمصرية وأنجب أربعة أطفال، وهم أحمد ومحمد ومحمود وهبة.
ثم غادّر ذلك الفدائي إلى اليمن برفقة أقرانه في العمل الوطني عام 1982؛ ولم يكن يرى عائلته في لبنان إلا مرةً كل أشهر، وسرعان ما يعود إلى عدن اليمنية.
وطوال تلك الفترة، بقي أبو مغصيب مصرًا على موقعه الفدائي؛ وسرعان ما توجه بمفرده إلى طرابلس الشرق ضمن مهمات المنظمة، حتى وقع الانشقاق في صفوفها.
وبعد أشهرٍ، وصل إلى قبرص ومن هناك نقلت طائرات عراقية أولئك الفدائيين إلى العراق وعاش هناك بمعزل عن أسرته التي ما تزال في سوريا في حينه؛ ورفض العودة لفلسطين مع القوات الفلسطينية؛ لأسباب صحية ومكوثه في مستشفى عراقي؛ وتوقف راتبه عام 1995.
الاتصال المفقود
قاتل "أبو مغصيب" بجانب القوات العراقية التي تصدّت للعدوان الأمريكي عام 2003 بقيادة جورج بوش؛ وعندما حاول العودة إلى سوريا مُتسللاً بعد عامٍ الغزو الأمريكي لبغداد من منطقة "البوكمال" الحدودية، جرى اعتقاله من قبل قوات سورية، وسُجن عشر سنوات لم يرى "خلالها الشمس"؛ وفق وصفه.
وطيلة سنوات السجن، لم يكُن بينه وبين أسرته أي اتصال، أو يعرف عنهم شيئًا؛ وعندما أفرج عنه نهاية العام 2012 تم ترحيله إلى مخيم عين الحلوة مجددًا، وحصل حينها على وثيقة سفر لبنانية ومكث هناك عامان، وتم ترحيله إلى القاهرة ثم وصل غزة في العام 2014.
رحلة عذاب جديدة
عندما وصل "أبو مغصيب" غزة للمرة الأولى بعد 50 سنةً من السنين الحالكة التي مر بها؛ لم يجد مكانًا يقطن به؛ حتى وفرت له بلدية في دير البلح أرضًا وكرفانًا من الصفيح، ما زال يعيش مع زوجته الثانية.
لكن الأيام والسنون لم تكن رحيمةً بجسد الفدائي القديم؛ حتى بدأت برمي شباكها عليه، لينضم المرض لذلك الثالوث على جسده الضعيف.
واليوم، يحتاج تكاليف علاجية باهظة الثمن، ليس بمقدوره توفيرها سوى عبر بعضًا من فاعلي الخير أو من بعض العارفين بظروفه؛ فيما باءت محاولاته بالفشل لاستعادة راتبه المقطوع؛ وليس لديه سوى 750 شيقلاً يتلقاها من وزارة التنمية الاجتماعية كل أشهر.
ذاك المُسن الذي بات طريح فراشه البالي، وأسير واقعه المعيشي الصعب؛ يعيش صراعًا داخليًا مع أمراضه ولوعته لرؤية أبنائه؛ لم تزد مطالبه عن مساعدته في البحث عن زوجته الأولى وأبنائه الذين لا يعرف عنهم شيئًا وأن يجد من يوفر له مسكنًا ومرتبًا ملائمين.