كأنه زفافٌ حقيقي بالنسبة للمُسنة وهيبة مسعود فهي ليست مجرد لحظات فرح عابرة، بعد أن شاء القدر لها أن تُعانق نجلها يوسف للمرة الأولى بعد 19 سنةَ ونصف من الحرمان في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
واعتقلت قوات الاحتلال المحرر مسعود عند حاجز "أبو هولي" سابقًا وسط قطاع غزة، في ديسمبر عام 2003؛ وحُكم عليه بالسجن 19 عامًا ونصف، بتهمة الانتماء لكتائب القسام، وإطلاق صواريخ صوب مستوطنات "غوش قطيف"؛ قبل الانسحاب الإسرائيلي.
وتجرعت والدة المُحرر مسعود مرارة الفقدان والحرمان من فلذات الكبد ثلاث مرات؛ أولاها: بعد اعتقال نجلها يوسف، والحرمان من زيارته لأكثر من عشر سنوات؛ وثانيها عند استشهاد نجلها حسين، أثناء محاولته إنقاذ عدد من المقاومين داخل نفق منهار في حي التفاح بغزة.
وثالثها عند ارتقاء نجلها وليد، في 1 أغسطس 2014؛ فيما كان يُعرف آنذاك بـ "الجمعة السوداء" برفح، أثناء مشاركته في أسر الضابط الإسرائيلي هدار غولدن؛ واختطاف قوات الاحتلال الإسرائيلي لجثمانه من موقع العملية.
الأم المكلومة وهي تخرج من فقدٍ لآخر، ترفع رأسها بهم مُفتخرة بصنيعهم، الذي سُخر لدّحر الاحتلال والعمل على تحرير الأسرى، خاصة نجلها وليد الذي قطع عهدًا قبل فقدانه في عملية أسر "غولدن" أن يأسر ضابطًا لتحرير الأسرى؛ كما قالت والدته لمراسل "صفا".
تزينت الأم بثوبٍ مُطرز وخرجت منذ الصباح الباكر لانتظار نجلها عند حاجز بيت حانون/إيرز شمالي القطاع، وعيناها بين الحين والآخر تشخص صوب طريقٍ ضيق مُخصص لعبور وتنقل المسافرين، ومنه سيطل نجلها يوسف في أي لحظة.
سويعات ثقيلة مرت من الانتظار عند الحاجز؛ تصفها المسنة مسعود بأنها أصعب من سنوات اعتقاله جمعاء؛ حتى طل يوسف عبر مركبة صغيرة لنقل المسافرين، وهرولت نحوه وعانقته وسط بكاء شديد، لم توقفه سوى الزغاريد التي تعالت من شقيقاتها اللواتي كُنّ حولها.
أما توفيق مسعود والد المحرر لم تسعفه أمراض كبر السن في الهرولة، فبقي في مقعده حتى أتاه نجله يقبله رأسه ويداه.
تلك اللحظات الغامرة من السعادة، أطفأت نار الأم، لكنها أوقدت نار الحنين لنجلها وليد الذي ما زال مفقودًا، رغم يقينها أنه شهيدًا في عملية أسر الضابط غولدن؛ لكنها ما تزال تأمل عودته في أي لحظة حتى لو كان شهيدًا، كي تلقي نظرة الوداع الأخيرة عليه.
وتقول الأم مسعود لمراسل "صفا": "استقبلت نجلي استقبال الأبطال، بعد هذا العمر الطويل من الحرمان من زيارته ومعرفة كيف يعيش؛ هي سنوات طويلة من المعاناة والتعب والشوق، لكنها تبددت في لحظة خروجه حُرًا سالمًا مُعافًا من سجون الظلم؛ زوجت ثمانية من أبنائي لم أفرح كهذه الفرحة".
وتضيف "كلي أمل أن أرى جميع الأسرى محررين، وهي الأمنية التي سار على خطاها أبنائي الأسير والشهيدين، خاصة (وليد) الذي كان همه تحرير الأسرى؛ وأتمنى أن تًبَيَض السجون عبر صفقة وفاء أحرار 2 قريبًا؛ على جميع الجهات المختصة خاصة المقاومة، والعمل على تنفيذ صفقة لتحريرهم لأنها أملهم الوحيد"؛ موجهة الشكر للمقاومة على جهودها الحثيثة للإفراج عن الأسرى.
وتتابع "الأسرى يستحقون الحرية، لأنهم يعانون معاناة كبيرة؛ نحن كعائلات أسرى نعاني أيضًا سواء حرمان من الزيارة والاطمئنان على أبنائنا، حتى عندما يسمح لنا بالزيارة كنا نتعرض للإهانة والعذاب، رغم كبر سننا، لكنه لم يشفع لنا عند الاحتلال".
وتؤكد أن فرحتها لم ولن تكتمل إلا بتحرير جميع الأسرى، وانتهاء معاناة عائلاتهم قريبًا؛ مضيفة: "من عاش المعاناة يعلم جيدًا حجمها ومعناها، لذلك أتمنى تلك اللحظة لهم جميعًا".
وتقول عن أبنائها الشهداء: "صحيح الفراق صعب وكان استشهادهم صدمة، لكن عزائي أنهم شهداء، وافتخر بهم؛ لا بد أن نقدم لأجل الوطن وحماية المسرى والأسرى؛ بكيت كثيرًا على فراق يوسف عند اعتقاله، لكن وليد كان قبل استشهاده يصبرني بأنه سيأسر ضابطًا إسرائيليًا وفعلاً أوفى بوعده".
أما المحرر يوسف، فلم تسعه الفرحة؛ قائلاً: "اليوم يوم فرح وعزة ونصر وتمكين؛ عدتُ لغزة العزة التي قدمت الكثير لأجل الأسرى وحريتهم. (..)؛ اليوم أنا بين أحضان عائلتي لا تسعني الفرحة، وفخور بأمي التي صبرت على فراقي وفراق أشقائي الشهداء".
ويشدد يوسف، على أن الأسرى معنوياتهم عالية وينتظرون الحرية والفرج، ويحملون قائد أركان المقاومة محمد الضيف وقائد حركة حماس يحيى السنوار أمانة تحريرهم؛ مضيفًا "أنتم أملهم بعد الله؛ ينتظرون الفرج؛ غادرت سجن نفحة الذي تعرضت فيه مع الأسرى لعدوان إسرائيلي همجي، لكن لم ولن تلين عزائمنا وما زلنا على العهد وطريق المقاومة".