نشر مركز عروبة للأبحاث والتفكير الاستراتيجي، ورقة تقدير استراتيجي حول مؤشِّراتُ التصعيد بين "إسرائيل" وإيران و"حزب اللهِ" والسيناريوهاتُ المقبل.
وتنطلق الورقة-بحسب المركز- من التصاعد الكبير في خطاب التهديد والوعيد المنطلِق من قادة الاحتلال في المستوى السياسي والمستويين الأمني والعسكري، بعد أيام معدودة على تنفيذ "حزب الله" مناورةً عسكريةً في جنوبي لبنان استعرَض فيها قوَّتَه، تضمَّنت محاكاة سيناريوهاتٍ عملياتيةٍ كبرى شملت أَسر الحزب جنودًا إسرائيليِّين، وتوغُّلًا بريًّا للحزب في منطقة الجليل الأعلى شمالي فلسطين، وصدَّ غزوٍ إسرائيليٍّ للجنوب اللبناني.
وبينت الورقة أن رسائلُ قادةِ الاحتلالِ حملت تلويحًا واضحًا بوضع كل الخيارات على الطاولة في التعامل مع إمكانية نشوب مواجَهة مع "حزب الله" أو إيران أو كليهما، فيما لم يتوانَ "حزب الله" عن الرد على هذه التهديدات، والأمر ذاته من الحرس الثوري الإيراني تعليقًا على تصريحات حول جهوزية الاحتلال للتعامل مع الملف النووي الإيراني وتقدُّمه، فيما لم تتوقف الرسائل عند التهديدات، بل تضمنت مناوراتٍ مختلفةً ومتلاحقة، نظَّمتها المقاومة اللبنانية، وكذلك جيش الاحتلال الإسرائيلي.
وتطرقت الورقة إلى خلفية التوتر، اذ شهدت حدودُ فلسطين المحتلة الشمالية توترًا لم تشهده منذ انتهاء عدوان تموز 2006 على لبنان، مشيرة إلى أن عملية التفاوض تحت التهديد على حقوق لبنان في الغاز الطبيعي وترسيم الحدود البحرية، وإطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان تجاه الأراضي الفلسطينية المحتلة كانت نقاط تصاعد مهمة في التوتر، فيما شكلت عملية مجدو منعطفًا هامًّا في التعامل الإسرائيلي مع ما عدَّه تغييرًا في قواعد الاشتباك والمواجَهة، إذ وجَّهَت أجهزةُ أمن الاحتلال أصابعَ الاتهام لـ"حزب الله" بالوقوف خلف العملية.
وأشارت إلى المعادَلات الجديدة والتقدُّم في جرأة المقاوَمة، والتي تمثلت في مستويين، المستوى الأول تدشين حزب الله معادَلة "المعركة بين الحروب المضادة"، التي ثبَّت فيها معادلته في مواجَهة سياسة "المعركة بين الحروب" التي ينفِّذها الاحتلال لاستهداف عمليةَ تطوير الحزب وقدراتِه، أما المستوى الثاني فتمثَّل في توسُّع النشاط المقاوم لفصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان، وإعادة تنشيط خيارات الرد العسكري الفلسطيني من الأراضي اللبنانية.
ولفتت الورقة إلى مناورات حزب الله والتي حملت اسم "سنعبر" والتي نُظِّمَت "على غير المعتاد"، وقد جاءت المناورة قبيل "يوم التحرير"، الاحتفالِ السنويِّ بانسحاب القوات الإسرائيلية من جنوبي لبنان في 25 أيار/مايو 2000، وفي أعقاب العدوان الأخير للاحتلال على قطاع غزة.
وحملت المناورةُ عددًا كبيرًا من رسائل التحذير والتعبيرات الضمنية عن استعراض الحزب لقدراته وخططه المستقبلية في أية مواجَهة مع الاحتلال، ولمَّحَت بوضوح إلى امتلاك الحزب صواريخ دقيقة سيستخدمها في أية معركة مستقبلية مع الاحتلال.
وذكرت الورقة أن قادةُ الاحتلالِ لم يمرِّروا مناوراتِ حزب الله بهدوء، بل انطلقت عاصفة من التصريحات من مستويات مختلفة تَحمل تهديداتٍ للحزب ولبنان وإيران وحتى لغزة، بأن "إسرائيل" قادرة على تنفيذ عدوان واسع يَستهدف أعداءها.
في الوقت ذاته، أعلن جيش الاحتلال بدء تنفيذ مناورة عسكرية واسعة النطاق على حدود فلسطين المحتلة الشمالية، تستمر نحو أسبوعين، ستحاكي القتالَ متعددَ الجبهاتِ جوًّا وبحرًا وبرًّا وعبر "السبكتروم" والفضاء الإلكتروني "السايبر"، والتعاملَ مع عدة ساحات من القتال بشكل متزامن، لاختبار مدى استعداد جيش الاحتلال لخوض معركة طويلة الأمد وكثيفة
من جهة أخرى بينت الورقة أن الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله لم يتوانَ عن الرد على التهديدات "الإسرائيلية"، خصوصًا تصريحات رئيس استخبارات جيش الاحتلال، مؤكِّدًا في كلمة له أن "على إسرائيل أن تخاف، وألَّا ترتكب أخطاءً حتى في التقييمات، لأن أي خطأ سيؤدي إلى حرب كبيرة".
فيما صرَّح مسؤول إيراني بأن أي اعتداء عسكري على المنشآت النووية سيقابَل بردٍّ واسع وغير مسبوق، مؤكدًا أن تخصيب اليورانيوم يجري عند عتبة 60%، وأن كلام "إسرائيل" مجرد تحريض ودعاية، مشدِّدًا على استمرار طهران في تطوير قدراتها العسكرية في المجالات كافة.
وفي إطار الرسائل الساخنة، بثَّ التلفزيون الرسمي الإيراني لقطاتٍ لإطلاق صاروخ، وُصِف بأنه تحديث لصاروخ "خرمشهر 4"، القادر على حمل رأس حربي يزن ألفًا وخمسمِائة كيلوغرام ويصل مداه إلى ألفَي كيلومتر، وأطلق عليه اسم "خيبر".
وتناولت الورقة سناريوهات تطوُّر المَشهَد، والتسخين المتسارع في المنطقة، والرأي السائد إسرائيليًّا بتراجُع قدرات "الردع" للاحتلال ما سَمَحَ بزيادة جرأة خصومه (في إشارة إلى فصائل المقاوَمة وإيران)، وتقدير الأوساط الأمنية "الإسرائيلية" بأن أزمة الكيان الداخلية شجَّعَت قوى المقاوَمة في المنطقة على المزيد من المبادرة الهجومية واستثمار لحظة الانكشاف، ما يتطلب اتخاذَ إجراءاتٍ عدوانيةٍ تَحمل في جوهرها أهدافًا "دفاعيةً-ردعيةً" تباغِت فيها "إسرائيلُ" خصومَها بضربات نوعية مضمونة النجاح، ترمِّمُ بها قدراتِ الردع لديها وتُعيدُ تثبيت قواعد اشتباك تتناسب مع حاجتها الأمنية، كلُّ ذلك يَفتح البابَ أمام مجموعة سيناريوهات:
السيناريو الأول: توجيه ضربة عسكرية متزامنة لإيران والفصائل المتحالفة معها في المنطقة.
السيناريو الثاني: وجود معلومات استخباراتية دقيقة لدى الاحتلال حول نية حزب الله وقوى المقاوَمة في المحور تنفيذَ هجومٍ كبيرٍ على دولة الاحتلال في الفترة القادمة، ما يدعمه حديث رئيس أركان جيش الاحتلال ورئيس استخباراته، وما قد يَستدعِي تنفيذ الاحتلال ضربة "استباقية" تَستَهدِف قدراتِ المهاجِمِين الهجومية.
السيناريو الثالث: توجيه ضربة لقيادة ومقدَّرات المقاوَمة الفلسطينية المتواجدة في لبنان، ولا سيَّما الناشطِين في ملفَّي الضفة الغربية وتفعيل المقاوَمة من جنوب لبنان.
السيناريو الرابع: تحقيق "ردع" بالتهديدات لإيران و"حزب الله"، إذ يرفع الاحتلال من وتيرة تهديداته وتحركاته الميدانية وحديثه عن استعداده لتوجيه ضربة -حتى لو بشكل منفرد- إلى إيران وحلفائها في المنطقة.
وذكرت الورقة في خلاصتها، أن كل سيناريو من السيناريوهات المطروحة يَحمل أوجُه قوة وضعف، ويُشترط لتحقيق أحدها توفر عدة عوامل، إلا أن الثابت الأساس أن "إسرائيل" مقتنعة في كل مستوياتها بأن صورة "الردع" قد تهشَّمت تهشُّمًا غير مسبوق، وبأن أزمتها الداخلية والتغيرات في المنطقة والعالَم قد وفَّرَت لحظةً تاريخيةً لخصومها لتغيير قواعد الاشتباك وتدشين معادَلاتٍ جديدةٍ في المواجَهة المستمرة معها، ما يتطلب منها تحركًا جديًّا وخطواتٍ فعليةً لترميم ما خسرته في السنوات الأخيرة، والذي تعاظَم في السنة الحالية مع اشتدادِ أزمة الكيان الداخلية، ونجاحِ المقاوَمة في توجيه عدة ضربات وتحريك عدة ساحات كانت إلى وقت قريب "مُحيَّدة" وخارج معادَلة الاشتباك.
التقدير الأرجح
فيما رجحت الورقةُ كلًّا من السيناريو الرابع والسيناريو الثالث على التوالي، كونَهما أقرَب إلى التحقُّق من خلف التسخين المتصاعد في المنطقة، وترى الورقةُ أن "إسرائيل" غير جاهزة لخوض معركة متعددة الجبهات تتضمن توجيه ضربة لإيران، إذ إن التحولات في المنطقة، وصعوبة حسم الاحتلال لإمكانية نجاح ضربته، وأن الولايات المتحدة لا ترغَب في اللجوء إلى الخيار العسكري، كلها أسباب تحُول دون تحوُّل السيناريو الأول إلى سيناريو واقعي، فيما يعِي الاحتلالُ أن معركةً مع حزب الله ليست نزهة وأن ثمنها سيكون كبيرًا، ولا تُشير الأوضاع إلى أن "حزب الله" يُفضِّل أن يَفتح اشتباكًا مباشرًا مع الاحتلالِ طالما التزَم الاحتلالُ بقواعد الاشتباك، بل يُفضِّل الاستمرار في تطوير قواعد جديدة يكون فيها الفعل المباشر للقوى والفصائل الفلسطينية الناشطة في لبنان بغطاء وموافقة ودعم من الحزب، لتوسيع معادَلات الاشتباك مع الاحتلال عبر الجبهة الشمالية، وتعزيز الدعم لتوسيع نشاط المقاوَمة في الضفة المحتلة، ما يعزِّز احتمالية أن يلجأ الاحتلال إلى توجيه ضربة لقيادة المقاوَمة الفلسطينية في لبنان، ومحاولته تجنُّب ردٍّ واسعٍ من حزب الله على الضربة، عبر تصعيد التهديدات والاستعدادات لرفع تكلفة العدوان في حال دخول الحزب في المواجَهة.