يوافق اليوم السبت 17 ديسمبر/ كانون الأول مرور 30 عامًا على إبعاد سلطات الاحتلال الإسرائيلي 415 من قادة حركتي حماس والجهاد الإسلامي من قطاع غزة والضفة الغربية المحتلة إلى مرج الزهور جنوب لبنان.
ففي مثل هذا اليوم من العام 1992، انتهت المدة التي حددتها كتائب الشهيد عز الدين القسام لحكومة الاحتلال من أجل الإفراج عن الشيخ أحمد ياسين المعتقل لديها، لقاء الإفراج عن الجندي الرقيب أول نسيم توليدانو والمأسور لدى القسام، لكن الاحتلال خسر حياة جنديه، نتيجة تعثر الوصول لاتفاق يُبرم خلاله صفقة للتبادل.
وبعد يومين، ألقت كتائب القسام جثة "توليدانو" على طريق القدس أريحا، ما جن جنون رئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي آنذاك إسحاق رابين، وأعلن من داخل الكنيست الحرب على حركة حماس، فبدأ بإبعاد 415 من قادة العمل الإسلامي جُلهم من حماس إلى مرج الزهور جنوب لبنان.
وفي حينه داهمت قوات الاحتلال منازل من وضعت أسماءهم على لائحة الإبعاد، ونقلتهم جميعًا بشاحنات غير مخصصة للنقل الآدمي، فظن المبعدون أن الأسر هذه المرة لن يكون في السجون المعروفة والموجودة بغزة والضفة، لكن أقصى ما توقعوه أن تكون وجهتهم نحو سجن صحراء النقب.
لكن بعد أن مضت 60 ساعة ولم تصل الشاحنات إلى مقصدها أدرك المبعدون أن القضية أكبر من الاعتقال، وأن وجهتهم ليست النقب، ولحظات حتى وجدوا أنفسهم على الحدود اللبنانية بعد أن أبلغهم الضابط المسؤول أنهم مبعدون بقرار من رئيس الوزراء رابين.
مخيم العودة
رفض المبعدون مغادرة المكان الذي نزلوا فيه وأنشأوا مخيمًا لهم في تلك المنطقة، وأطلقوا عليه اسم "مخيم العودة"، لترسيخ مبدأ العودة القريبة، وذلك على الرغم من الأجواء الثلجية الباردة، وأسسوا فيه جامعة "ابن تيمية".
وكان الصليب الأحمر الدولي أول من وصل إلى المبعدين، ونقل لهم الخيام والأغطية وبعض المستلزمات الأساسية الأولية للاستقرار، وبدأت وسائل الإعلام بالتحرك لتنقل وقائعهم صورة وصوتًا وحدثًا.
ونجح المبعدون في تحويل مخيمهم إلى ما يشبه نموذج دولة صغيرة، واتبعوا أسلوبًا إيجابيًا في تنظيم العمل، فقسموه إلى لجان عديدة، وانتخبوا من يديرها، على أساس أنهم سيعودون مهما طال بهم الزمن في هذا المخيم، واختير عبد العزيز الرنتيسي القيادي في حركة حماس (استشهد في 17 نيسان/ أبريل 2004) ناطقًا رسميًّا باسمهم، ونظموا حياتهم تنظيمًا كبيرًا.
لم يقتصر جهد المبعدين على الجانب الإعلامي فقط رغم أهميته الكبرى، إلا أنهم ساروا بخط متوازٍ في البناء والتربية، فأسسوا جامعة "ابن تيمية" التي ضمت 88 طالبًا جامعيًا، وحاضر فيها العديد من الأكاديميين المبعدين، وكان التدريس فيها على أسس علمية وجامعية كالمعتمدة في جامعات فلسطين.
ونجحوا أيضًا في التنسيق مع الجامعات الفلسطينية في الضفة وغزة لاحتساب المساقات التي تدرس في جامعة ابن تيمية، وقد تخرج في الدفعة الأولى 15 طالبًا، واعتُمدت شهاداتهم في جميع الجامعات الفلسطينية بعد ذلك، كما أقامت الجامعة دورات تدريبية لغير طلبة الجامعات، فاستغلوا أوقاتهم، وطوّروا قدراتهم.
وتحول المخيم إلى قبلة لكل وسائل الإعلام والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية، وكان هذا المخيم بوابة لتوطيد العلاقات الفلسطينية-اللبنانية، وقدّمت المساعدات لهم الحكومية وغير الحكومية، وزار عدد من الشخصيات المخيم.
واستفادت حركة حماس كثيرًا من هذه الحالة، لا سيما في ترتيب الوضع التنظيمي لهم باجتماع قيادات غزة والضفة، وكذلك الزيارات التي كانت تتم لهم من قيادات في الخارج والانفتاح الذي تم بينهم.
وأصبح هذا الموضوع يؤرق "إسرائيل"، وشعرت أنها أصبحت في ورطة كبيرة مع بقاء المبعدين في مرج الزهور، لا سيما بعد إثارة الرأي العام العالمي ضدهم وصمود المبعدين في المخيم.
رحلة وتجربة
ورغم أن الاحتلال أراد أن يكون الإبعاد منفى ونكبة لقادة العمل الإسلامي، إلا أنهم جعلوا من نكبتهم رحلة وتجربة في كل المجالات، فوظفوا طاقاتهم جميعًا، وأنشأوا عيادة طبية تعمل على مدار الساعة لمداواة مرضاهم، ونجحت في إجراء عدة عمليات جراحية لعدد من المبعدين، حتى إن عددًا من سكان منطقة مرج الزهور تلقوا العلاج فيها.
ولم يتوقف المبعدون عن تنظيم المسيرات والوقفات الاحتجاجية للمطالبة بحقهم في العودة، وبرزت من هذه الفعاليات "مسيرة الأكفان" في أبريل من عام 1993م، التي لبس فيها المبعدون أكفانهم واتجهوا نحو الحدود مع فلسطين المحتلة لرفضهم أي قرار سوى العودة إلى ديارهم.
وحينها قابلتهم قوات الاحتلال بإطلاق قنابل الغاز عليهم، وذلك مع وجود وسائل الإعلام، ما شكل حالة ضغط إضافية على "إسرائيل" لإعادتهم.
راهن الاحتلال وعلى مدار سنة كاملة على قبول المبعدين بالواقع الذي حاول فرضه، إلا أنهم نجحوا في كسر قرار الإبعاد ووأد هذه السياسة في مهدها، فوافق الاحتلال في سبتمبر عام 1993م على عودة 189 مبعدًا إلى ديارهم، فيما عاد الباقون في ديسمبر من العام نفسه.
فصول العذاب والمعاناة التي عاشها مبعدو مرج الزهور طيلة مدة إبعادهم، لم تنل من عزيمتهم وصمودهم في مقاومة الاحتلال وإجراءاته، بل عمقت إيمانهم بخيار العودة، وشكل الإبعاد تحولًا استراتيجيًا ومحطة مهمّة في تاريخ الحركة الإسلامية والشعب الفلسطيني.