"لا أريد العودة إلى بلادي.. أدفنوني هنا عند أبنائي في غزة"؛ كانت تلك الوصية الأخير للأسترالية جين كالدر (86عامًا)، التي عشقت القضية الفلسطينية وافنت نحو 40 عامًا من عمرها بغزة، حتى توفيت ودُفنت فيها تحقيقًا لحُلمها.
الراحلة "كالدر" من مواليد أستراليا عام 1936؛ تركت أهلها وانطلقت مطلع ثمانينيات القرن الماضي إلى منطقة الشرق الأوسط، لمساعدة الأطفال للعيش في أمان واستقرار، حتى استقر بها الحال في محافظة خان يونس جنوبي قطاع غزة وعملت داخل جمعية الهلال الأحمر الفلسطيني، حتى وفاتها قبل ثلاثة أيام.
داهم مرض السرطان جسد أيقونة العمل الإنساني دون استئذان في الأعوام الماضية، لكنه لم يثنيها عن مواصلة عملها الإنساني دون تردد، رغم المرض وكبر السن.
حياتها ووصولها غزة
"كالدر" أسترالية الأصل فلسطينية الهوى، كما يصفها نائب رئيس فرع خان يونس بجمعة الهلال الأحمر الفلسطيني، محمد الأغا، الذي يؤكد أنها توجهت عام 1980 للبنان لإغاثة الأطفال وخدمة ذوي الإعاقة، والتقت بمؤسس جمعية الهلال الأحمر فتحي عرفات في العام التالي وعرضت العمل ضمن طاقم جمعية الهلال الأحمر، وحصلت على موافقة للعمل تطوعًا وبدأت مشوارها منذ ذلك الحين في العمل الإنساني.
يقول الأغا، لمراسل وكالة "صفا"، "حصلت (كالدر) على تصريح جامعة الدول العربية للعمل في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين لصعوبة الوضع هناك للأجانب؛ عام 82 خلال الحرب على لبنان والحصار خاضت حرب إنسانية بمفردها، من خلال العمل على علاج الجرحى والمصابين في المشافي، وركزت في اهتمامها على شريحة ذوي الاعاقة".
"خلال الحرب الإسرائيلية على لبنان، تدخل القدر في حياتها، بعد عثورها على أطفال ثلاثة مجهولي النسب (غير أشقاء)، وهم: دلال التاجي وحمودة الكركي وبدر ياسر عرفات، وجميعهم من ذوي الإعاقة الخاصة، الأولى فاقدة للبصر منذ الولادة، والثاني يعاني من شلل رباعي وتأخر عقلي، والثالث إعاقة حركية"، يقول الأغا.
بقيت تهتم وترعى الأطفال الفلسطينيين الثلاثة مجهولي النسب، "بدر ودلال وحمودة" الذين أصبحوا عائلتها، وانتقلت بهم إلى سوريا عام 85 بعد إخراجها عنوةً من لبنان على متن طائرة؛ بسبب عدم السماح بعمل الأجانب في ذلك الوقت، بعد فترة وجيزة غادرت بهم بجهود الهلال الأحمر الفلسطيني إلى مصر، ومكثت 10 أعوام، ونجحت في إنشاء معهد عين شمس للمعاقين والأيتام.
مع عودة السلطة الوطنية الفلسطينية، وفق اتفاق أوسلو إلى الأراضي الفلسطينية، انتقلت بأطفالها للعيش في قطاع غزة، بدايات عام 1995 لتستقر في محافظة خان يونس.
حصلت "كالدر" على وسام "رفيق" من أستراليا عام 2005؛ تكريمًا لها على الخدمات الإنسانية التي تقدمها في الشرق الأوسط، وخاصة للأشخاص ذوي الإعاقة الذين يعيشون في مخيمات اللاجئين في لبنان وغزة.
ويلفت الأغا إلى أنها تقلدت منذ وصولها غزة منصب مستشارة رئيس الجمعية لشؤون المعاقين وتقلدت في السنوات الأخيرة عميدة كلية تنمية القدرات؛ وأكملت مشوارها الإنساني، وبذلت جهود لا حصر لها في خدمة فئة ذوي الاعاقة، بجانب تربيتها أحسن تربية لأطفالها الثلاثة، وحثهم على الأخلاق والإلتزام في دينهم رغم أنها مسيحية، وكانت تصوم معهم رمضان وتشاركهم أدق تفاصيل حياتهم.
وينوه إلى أنهم أبنائها الثلاثة مكثوا معها حتى وفاتها في منزلٍ واحد بحي الأمل المجاور لمقر عملها داخل الهلال بخان يونس، "وزوجت "بدر" على نفقتها، الذي يعمل حاليًا موظفًا في الهلال، ودلال تخرجت من الماجستير، وحمودة توفى عن عمر 45 عامًا قبل سنوات بسبب مرض ألم به، كما أنها لم تكن تحب كثيراً الإعلام والحديث عن نفسها؛ ودائمًا ما كانت تردد "أنا لم أتي هنا لأُكرم، لم أقدم شيء ليتم تكريمي عليه"، وعليها ماتت، واليوم الكل يفتقدها خاصة ذوي الإعاقة"
دُفِنت بالعلم والثوب والكوفية
"قضت نصف عمرها في خدمة شعبنا، وكانت نعمة الأم والزميلة والعاشقة بشكل استثنائي للقضية الفلسطينية؛ ولم يطرق بابها أحد دون أن تخدمه؛ واليوم كل غزة حزينة على رحيلها"؛ وفق مدير الشؤون المالية والإدارية مستشفى الأمل ماهر عطا الله.
ويضيف "كانت محبوبة عند الناس في خان يونس خاصة الأطفال؛ خلال فترة الاجتياحات الإسرائيلية أثناء انتفاضة الأقصى، كانت تسير في الشوارع بين الناس ولم تغادر كباقي الأجانب، وهي تعلم جيداً أن هناك خطر على حياتها؛ ووقفت جنبًا إلى جنب مع الناس وتحملت مرار الحروب والظروف الصعبة التي عاشها السكان هنا وحملت همهم".
ويلفت عطا الله إلى أنها كانت تعتبر القضية الفلسطينية هي قضيتها، ولم تفكر للحظة أن تعود لبلدها أو تتزوج، "فقط كان همها تربية أطفالها الثلاثة حتى كبروا، والعمل الإنساني البحث مع فئة ذوي الاعاقة؛ كما ساهمت في جلب عدد كبير من الوفود والمتضامنين الأجانب لغزة".
"حاولت السفر للعلاج في الداخل بعد اكتشاف مرضها، لكن الجانب الإسرائيلي منعها وتدخلت سفارة بلادها، كما ذهبت عام ونصف للعلاج في مصر، وأصرت أن تدفع ثمن قبرها وتُدفن بغزة بالثوب الفلسطينية والكوفية والعلم؛ وهذا ما حدث عند وفاتها"، يقول عطا الله.
أمي الحنونة
أما "بدر" ياسر عرفات (41عامًا)، أحد أبناء "كالدر"، يتحدث بصعوبة نظرًا لإعاقته، يقول: "جين هي أمي الحنونة التي ربتني وعملتني وزوجتي مع أشقائي؛ أنا حزين جدًا اليوم بعد وفاتها، وكُنت أعلم أنها مريضة والوجع يزداد يومًا بعد الآخر وستتوفى في أي لحظة؛ وكنا نعتني فيها مع شقيقتي دلال وزوجتي؛ وأجرت عمليتين، وشفيت لكن المرض عاد وداهمها".
ويوضح إلى أن "كالدر" احتضنته وهو في سن الثامنة من عمره بلبان حتى وفاتها، وعملته اللغة الإنجليزية؛ مُشيرًا إلى أنها أقامت له حفل زفاف كبير عند زواجه، ولم تدخر جهدًا لإسعاده مع أشقائه الآخرين.