في 29 يوليو/ تموز عام 1948، كان عناصر من العصابات الصهيونية يقفون قرب قرية هونين شمالي فلسطين يراقبون المنطقة؛ فصادفوا أربع فتيات فلسطينيات من القرية.
إحدى الفتيات كانت مصابة بقدميها بالرصاص وتسيل منها الدماء، لكن ذلك لم يمنع عناصر العصابات من الاعتداء عليهن، وارتكاب مجزرة بشعة، سبقت إعدام أكثر من 20 شابًا من القرية.
لم تُعلن تفاصيل ما حدث في "هونين" من مجازر إلى يومنا هذا، بسبب ازدحام تاريخ الاحتلال بالمجازر إبّان النكبة سنة 1948، وبفعل سعي "إسرائيل" الحثيث لطمس تاريخها الأسود بحق شعبنا.
وتكشف وكالة "صفا"، بالتنسيق مع ناشطين وأبناء عائلات ضحايا، عن مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية إبان النكبة عام 1948 وما قبلها وما بعدها، أرادت "إسرائيل" إخفاءها في أرشيفها.
وتهدف الحملة إلى تقديم ملفات المجازر التي تخفيها "إسرائيل" إلى المحافل والمؤسسات الحقوقية الدولية، ضمن مسيرة قانونية لكشف المجازر وإدانة "إسرائيل" بها، وتشكيل ضغط عليها لإجبارها على كشف الستار عن هذه الملفات.
تفاصيل المجزرة
الفتيات الأربع اللواتي عُرفن بأنهن عربيات من لباسهن الأسود الطويل، كُنّ ضحايا لعناصر العصابات، الذين كان من بينهم كل من "إبراهام"، و"دانيال بخار"، و"مناحم شولمان"، و"يتسحاك حوفيري".
أمر المجرم "إبراهام" جنوده بإعدام النساء رميًا بالرصاص، وقبل أن ينفذوا الجريمة اغتصبوهن، وألقوا جثامينهن بجانب الطريق، واستمروا في طريقهم إلى معسكر العصابة وكأن شيئًا لم يكن.
كان دافع "إبراهام" لارتكاب الجريمة، مقتل قريب له يعمل ضمن العصابات في معركة قرب تل العزيزات القريبة من مدينة صفد، مع احتلال أراضي الـ48؛ فأراد أن ينتقم لقريبه، وفق ما دار بينه وبين بقية الجنود قبيل اغتصاب الفتيات وإعدامهن.
دفن الجثث لإخفائها
لم يكتف الجنود بالانقضاض على الفتيات؛ فحاولوا إذلالهن وإجبارهن على المشي مسافات طويلة شمالاً باتجاه معسكر العصابات، عقب اغتصابهن.
إعدام الفتيات، جاء بعد مواجهة إحداهن الجنود لحماية صديقتها، إذ حاولت منع أحد الجنود من لمسها، فأطلق "مناحم" النار عليها، فيما حاولت الأخريات الهرب؛ فأسرعوا بإعدامهن.
بعد عدة أيام، علم قائد المعسكر الاحتلالي بفعلة عناصره، فأرسل عددًا من أفراد عصابته إلى الموقع، وأمرهم بدفن الجثامين لإخفاء الجريمة.
شهادات الجنود
ومن بين الجنود الذين شاركوا في عملية نقل ودفن الجثامين "يعكوف غرينفلد"، و"يوسف بن موشي"، و"تسيون بن زخاريا"، و"موشي بن يهودا".
وفي شهادته التي أخرجت من أرشيف الاحتلال، قال "بن زخاريا": "إن الجنود وجدوا جثامينًا لثلاث نساء فقط، كن يلبسن ملابس سوداء، فنقلوهن ودفنوهن بملابسهن في قبور عمقها نحو سبعين سنتيمترًا".
أما صديقه "بن يهودا" فيشير إلى أنهم استمروا بالبحث عن جثمان المرأة الرابعة، ووجدوا بعد عدة أيام جثمانها متحللًا فحرقوه.
بعد أيام، زار ما يسمى وزير الأقليات والشرطة الإسرائيلي كيبوتس "كفار جلعادي"، الجاثم على أراضي خربة "طلحة" المهجرة، ويبعُد بضع كيلومترات عن "هونين"، واجتمع هناك مع مسؤولي العصابات في المنطقة.
كان أحدهم يدعى "ناحوم هوروفيتس"، وهو أحد أعلام العصابات آنذاك، وفي اللقاء أخبر "ناحوم" الوزير أنه قبل وقت قصير ألقى رجاله القبض على أربع نساء عربيات، فاغتصبوهن وقتلوهن.
ومما تم توثيقه وتسجيله في بروتوكول اللقاء الذي حضره مسؤول الأقليات، قال: "إنه توجه إلى المسؤول في وحدة "عوديد" العسكرية، ووعده في التحقيق بالموضوع".
وأضاف عامنوئيل أن "العرب في المنطقة يعلمون عن اختفاء النساء الأربع لكن لا يعلمون ما حل بهن".
غدر ومجزرة أخرى
وفي العاشر من أغسطس/ آب من العام نفسه، عقد اجتماع في كيبوتس "كفار جلعادي" بين أهالي "هونين"، والمسؤولين الصهاينة، ومثّل أهالي "هونين" في هذا اللقاء أربعة من وجهاء البلدة وهم شاكر فارس، ومحمد واكد، ومحمد الشاعر، ومحمد برجاوي.
وشارك في اللقاء من طرف الاحتلال "عامنوئيل فريدمان"، وطالب وجهاء القرية بالسماح لأقاربهم الذين هُجروا قبل ثلاثة أشهر بالعودة إلى بلدتهم، فيما تعهد "عامنوئيل" بنقل طلبهم إلى المسؤولين عنه مع توصية بالاستجابة إلى مطلبهم.
والتقي وجهاء القرية مع ممثلي الصليب الأحمر، وأخبروهم أن "عامنوئيل" وعدهم بإعادة أقاربهم المهجرين، وسلموهم قائمة بأسماء أهالي القرية، وطلبوا منهم إيصال الخبر المفرح إلى أقاربهم ليتحضروا للعودة.
إلا أنه في فجر اليوم التالي، بتاريخ الثاني من سبتمبر/ أيلول، أصدر جيش الاحتلال أمراً بمهاجمة قرية "هونين"، وبحسب الأمر فإن "الهدف هو مهاجمة القرية، وإعدام عدد من الرجال، وأخذ الأسرى، وهدم عدد من البيوت، وحرق ما يمكن حرقه".
ومما كُشف في وثيقة مهاجمتها، أنه "يوصي الأمر بتزويد الفرقة التي ستهاجم القرية بـ250 كيلوغرامًا من المتفجرات".
هاجم القرية جنود وحدة "البلماخ" بقيادة الضابط "يغآل الون"، ضمن عملية "يفتاح" لتطهير الجليل الشرقي، وأعدموا فيها 20 من أبنائها، ثم هدموا بعض البيوت، وحرقوا ما يمكن حرقه، أما من بقي حياً، فتم تهجيرهم شمالاً، وأزيز الرصاص فوق رؤوسهم.
اعترافات بالجريمة
وفي أرشيف المجزرة، طُرحت جريمة إعدام الفتيات الأربع المفقودات، فجاء أنه "خلال محاكمة الجنود، أمر الطبيب الشرعي الإسرائيلي بإخراج جثامين الصبايا الثلاث من القبور ليتم فحصها".
وفي تقريره، يقول الطبيب الشرعي "إنه يقدر عمر الأولى 15 عامًا، والثانية 20 عامًا، والثالثة 40 عامًا، واللاتي اغتصبن جميعًا، وبعد ذلك تم إعدامهن"، فيما لم يتم التعرف على الرابعة.
كما جاء أنه "تم إعدام الصغرى بإطلاق الرصاص على جبهتها، أما الوسطى فقد تم إطلاق الرصاص على رأسها من الخلف، بينما لم يتم التعرف على طريقة إعدام الثالثة، إذ كان رأسها مهشمًا بالكامل".
واعترف الجنود الأربعة أمام المحكمة بالجريمة، وزعموا أنها جاءت "انتقامًا لمقتل جندي قريب لهم في منطقة تل عزيزات، لكن رغم ذلك، برأت المحكمة الجنود القتلة، وزعمت ذلك أن النساء هن "مجندات عربيات"، لكي تطوي صفحة المجزرة.
وارتكبت العصابات الصهيونية المُسلّحة خلال أحداث النكبة الفلسطينية عام 1948، عشرات المجازر التي راح ضحيتها آلاف المدنيين الفلسطينيين العزّل في مختلف القُرى والمُدن، وما زال أبناء شعبنا مغيبون عن عشرات المجازر المطوية في أرشيف الاحتلال إلى اليوم.
وأطلقت وكالة الصحافة الفلسطينية (صفا) قبل أيام ملفًا خاصًا للكشف عن مجازر إسرائيلية مخفية بتفاصيلها وأسماء ضحاياها وأماكن ارتكابها في الأراضي المحتلة عام 1948.
ويتناول الملف عددًا من المجازر غير المعروفة على مستوى أبناء الشعب الفلسطيني والمؤسسات الدولية، بخلاف المجازر المعروفة، التي يُحيي الفلسطينيون ذكرى ارتكابها كل عام.
ويأتي الكشف عن المجازر بعد مرور 74 عامًا على النكبة الفلسطينية، التي ارتكبت العصابات الصهيونية خلال عامها وبعده مئات المجازر، التي كُشف العشرات منها، بينما طُويت ملفات أخرى في أرشيف "إسرائيل".
وتستعين الوكالة بمصادر خاصة في كشف تفاصيل المجازر، بالإضافة لكشف بعض الوثائق المصورة التي تثبت ارتكابها.