"لم يتبق لها سوى شهر لتتخرج، وتخرجت اليوم"، هكذا أنهت قذائف الاحتلال الإسرائيلي مسيرة التعليم التي قطعت الفتاة دنيانا العمور فيها كل الأشواط، قبل أن ترتقي بحفل تخرجها.
دنيانا (22عاما) كانت ترقد في غرفتها وسط كتبها ورسوماتها، تتابع أخبار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وفي الغرفة المجاورة تسابق أمها الدقائق، لكي تُنهي إعداد خبزها على "حلة" الكهرباء، التي عاد وصلها لـ4 ساعات فقط، بعد انقطاع 16 ساعة.
في ذلك الوقت آثر أشقاء دنيانا البقاء في المنزل وقضاء وقت اللعب بداخله، بسبب الانتشار المكثف للطائرات المسيرة الإسرائيلية، ظنًا بأن جدران البيت ستحميهم من عيونها.
قذيفة "غادرة"
فجأة، تطايرت رسومات دنيانا، وسقطت أمها أرضًا، وانغمست أرغفة الخبز بالدماء وغطاها الغبار، والأشقاء ارتموا أرضًا، كلٌ في زاوية بالبيت.
كانت تلك قذيفة من دبابة إسرائيلية متمركزة على حدود بلدة الفخاري جنوب قطاع غزة، أطلقها جنود الاحتلال، ثم أطلقوا وابلًا من الرصاص على مدار خمسة دقائق، وكانت أصوات كل من في بيت العمور قد سكتت، وهو ما دفع والد دنيانا يخاطر بنفسه ليدخل البيت، وينقذ عائلته.
وشن جيش الاحتلال الإسرائيلي مساء الجمعة عدوانًا على قطاع غزة استمر ثلاثة أيام، وأسفر عن استشهاد 44 مواطنًا فلسطينيًا، بينهم 15 طفلًا و4 نساء وإصابة 360 بجراح مختلفة، بالإضافة إلى تدمير عشرات المنازل.
بين الإسعاف وقطع الأنفاس
ويصف والد الشهيدة عدنان العمور المجزرة: "كنت خارج البيت لكنني قريب منه، وفجأة سمعنا صوت قصف مدفعي، ثم رصاص بشكل عشوائي ومستمر، لكن من صدمتي لم أستطع انتظار توقف إطلاق النار الثقيل حولنا، دخلت البيت مسرعًا، فكانت دنيانا ملقاة بجانب سريرها مضرجة بالدماء".
ويضيف بحرقة "إخوانها كانوا مصابين ووالدتها بجانب الخبز، أخذت أحملهم أنا وعمها، وأخرجناهم من داخل المنزل".
ولم يقدر الأب والعم على الوصول إلى الإسعاف رغم الاتصالات المتتالية، حيث يقع منزلهم في منطقة نائية، فيما كانت المجازر والقصف تتركز في بلدات أخرى في قطاع غزة، تتمركز بها سيارات الإسعاف.
ويقول والدها: "ساعة كاملة وأكثر حتى وصلت سيارة أحد المزارعين وأسعفناهم، فسيارة الإسعاف تأخرت حتى وصلت".
وفي ظل تأخر إسعافهم كانت أنفاس المصابين تتباطأ تباعًا، أما دنيانا، فكانت الأكثر نصيبًا من شظايا القذيفة.
ويصف والدها مشهد استشهادها "كنت أنظر إليها أكثر من إخوتها، كانت مصابة بشكل خطير، ونفسها بدا واضحًا أنه انقطع".
وارتقت دنيانا قبل أن تصل المستشفى، فيما رقد إخوتها في المستشفى، لا يعلمون أن شقيقتهم الكبرى قد رحلت دون حتى نظرة وداع.
ويقول الأب المكلوم "دنيانا كانت ستتخرج الفصل القادم من الجامعة، تعبت حتى أضمن لها ألا تنقطع عن الدراسة أو يفوتها فصل".
وبصوت تخنقه عبرات الوجع ردد "لم يبق لها سوى فصل لتتخرج، وها هي تخرجت".
ويضيف العمور "لم أصدق ما حدث ولم أتخيله، صحيح أننا نسكن في منطقة قريبة من السياج الأمني، لكن الاحتلال يعرف أننا مدنيين عزل، ويرانا ليل نهار في منازلنا ومزارعنا".
ويختم "أنا مصدوم جداً لما حدث؛ ابنتي فنانة تشكيلية وتحلم أن تصبح فنانة ومدرسة فنون جميلة، لكن القذيفة سلبت ذاك الحُلم".
أما هندي العمور ابن خال الشهيدة ويقطن بجوار منزلها فيقول لمراسل "صفا" إن ما حدث جريمة، فالأم كانت تجهز الخبز، والشهيدة كانت تُصلي وتتجهز لتلاوة القرآن الكريم، وإذا بانفجار، فاعتقدت الآم أن طنجرة الكهرباء انفجرت، فهربت من الغرفة مسرعة، ولم تعلم بعد ما حدث، وعند تفقد الأولاد خارج المنزل الذي كان يتعرض لإطلاق نار مباشر من قبل الاحتلال، لم تجد دنيانا، فعادوا لها ووجودها شهيدة".
ويضيف "كل واحد منا معرض لهكذا حدث، (فإسرائيل) لا حرمة لأحد عندها، تقتل وتبطش في كل مكان وزمان".
ويؤكد أنها "ضحية جديدة، تركت خلفها ألم كبير لأسرتها، التي كانت تنتظر تخرجها، وتفرح بتحقيق طموحها في أن تصبح فنانة ومدرسة للفنون التشكيلية".
ويخيم الحزن على أرجاء منزل دنيانا، ولم يعد ساكنيه له، ولم يعد هناك سوى كراسي استقبال المعزين خارجه، ولوحات يتيمة أضحت على جدران تلك الغرفة التي أظلمت للأبد.
وتخرجت "دنيانا" من دنياها قبل أن يفرح والداها بتفوقها، وتحول حديثها عن ثوب التخرج وصوره والإكليل، إلى حلم ووري الثرى مع جسدها.
وعقب العدوان الذي انتهى بإعلان مصر اتفاق لوقف إطلاق النار، بدأت الحياة تعود لطبيعتها تدريجيًا في القطاع، وسط أجواء خيَّم عليها الحزن الشديد، فيما بدأ المواطنون بتفقد آثار الدمار في الممتلكات، التي خلفتها الغارات أثناء العدوان.