رضخ رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون أخيرا لضغط التيار المنادي برحيله بعد استقالة عشرات الوزراء والمسؤولين الكبار في حكومته وتزايد المطالبات بين المشرعين بضرورة تنحيه، وظهر ضعيفاً معزولاً خارج مقر إقامته في "داوننغ ستريت" (مقر رئاسة الحكومة) ليؤكد أنه سيستقيل من منصب رئاسة الوزراء في بريطانيا.
ومنذ أمس اشتد الضغط السياسي على جونسون، وشهدت الساعات الأخيرة قبل إعلانه الاستقالة جهودًا مكثفة وضغوطا متواصلة من محيطه السياسي وبعض أبرز رجال حزبه لحمله على الرحيل ومغادرة المنصب بعد سلسلة من الفضائح المتتالية.
وقالت مراسلة الجزيرة في لندن مينة حربلو إن الاستقالات في حكومة جونسون شملت خلال 48 ساعة أكثر من 55 وزيرًا ووزير دولة ومساعدي وزراء، بينهم وزراء العدل والداخلية والصناعة والمالية والصحة والأمومة والطفولة والدولة لشؤون التكنولوجيا والإعلام، إلى جانب عدد كبير من كبار المسؤولين والنواب المحافظين.
ورغم استقالة جونسون، فإنه ما زال يكافح للبقاء رئيسا لحكومة تصريف الأعمال، ولكن مراسلة الجزيرة ذكرت أن الوزراء ونواب الحزب الذين تمردوا عليه، قالوا إنهم لن يسمحوا له بالمواصلة على قمة الحكم، وسيبحثون عن من يدير البلاد، في انتظار انتخاب زعيم لهم في أكتوبر/تشرين الأول المقبل.
مفاوضات الساعات الأخيرة
وقد تبخر الدعم الذي يحظى به جونسون فيما وصفته وكالة رويترز بـ"واحد من أكثر الأيام تقلبا في التاريخ السياسي البريطاني الحديث"، مع انضمام ناظم الزهاوي وزير المالية الذي عيّنه جونسون أمس الثلاثاء إلى الدعوات المطالبة بتنحيه.
وكان الزهاوي ووزراء آخرون في الحكومة قد ذهبوا إلى داوننغ ستريت مساء أمس الأربعاء مع ممثل رفيع عن النواب غير الأعضاء بالحكومة ليخبروا جونسون بأن اللعبة انتهت.
وفي بادئ الأمر، رفض جونسون الرحيل وبدا عازما على التشبث بسلطته، فأقال مايكل جوف، أحد أبرز أعضاء فريقه الوزاري والذي كان من أوائل من أبلغوه بأنه يجب أن يستقيل، في محاولة لإعادة تأكيد سلطته.
لكن بحلول صباح اليوم الخميس ومع توالي عدد كبير من الاستقالات، أصبح من الواضح أن موقفه لا يمكن الدفاع عنه.
وكتب الزهاوي على تويتر "هذا وضع غير قابل للاستمرار وسيزداد سوءا بالنسبة لك ولحزب المحافظين، والأهم من ذلك، للبلد بأسره. يجب أن تفعل الشيء الصحيح وترحل الآن".
وقال بعض ممن بقوا في مناصبهم، ومن بينهم وزير الدفاع بن والاس، إن ما يمنعهم عن الرحيل هو التزامهم بالحفاظ على أمن البلاد.
وكانت الاستقالات الوزارية كثيرة بحيث باتت الحكومة تواجه خطر الشلل. وعلى الرغم من قرب رحيله، كان جونسون يعمل على ملء الأماكن الشاغرة في حكومته.
وقال مايكل إليس، وهو وزير يشرف على تسيير شؤون الحكومة، للبرلمان "من واجبنا الآن أن نتأكد من أن هذا الشعب لديه حكومة فاعلة".
ومن جهتها، دعت وزيرة الخارجية البريطانية ليز تروس الخميس إلى "الهدوء والوحدة" عقب استقالة رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون من منصبه.
وكتبت تروس في تغريدة من بالي حيث من المتوقع أن تشارك يوم الجمعة في اجتماع وزاري لمجموعة العشرين "اتّخذ رئيس الوزراء القرار الصائب. حققت الحكومة تحت قيادة بوريس العديد من الإنجازات، إنجاز بريكست واللقاحات ودعم أوكرانيا. نحن الآن بحاجة للهدوء والوحدة ومواصلة الحكم حتى إيجاد زعيم جديد".
على الجبهة المعارضة؛ قال زعيم حزب العمال المعارض كير ستارمر إنه سيدعو إلى تصويت على الثقة في البرلمان إذا لم يتحرك حزب المحافظين للإطاحة بجونسون على الفور.
وأضاف "إذا لم يتخلصوا منه، فسيتدخل حزب العمال من أجل المصلحة الوطنية ويطرح تصويتا بحجب الثقة لأننا لا نستطيع الاستمرار مع رئيس وزراء يتشبث بالسلطة لأشهر وأشهر".
وبدوره قال الزعيم السابق لحزب العمال جيريمي كوربين للجزيرة إن جونسون لم يكن شفافا في التعامل مع النواب ولا مع وزرائه.
وأكد أن على المحافظين الإقرار بأنهم السبب في الأزمة الاقتصادية.
خلفاء جونسون المحتملون
قال كثيرون إنه يتعين على جونسون المغادرة فورا وتسليم السلطة لنائبه دومينيك راب بداعي أنه فقد ثقة حزبه، ووفقا لبعض التقديرات واستطلاعات الرأي فإن هؤلاء هم أبرز الشخصيات التي يمكن أن تتولى السلطة خلفا لجونسون:
– بن والاس: وزير الدفاع البالغ من العمر 52 عامًا يتمتع بشعبية أكثر من أي وقت مضى في أجواء الحرب الروسية في أوكرانيا. وعلى الرغم من أنه نفى اهتمامه بقيادة حزب المحافظين، فإنه يعد في صفوف الحزب شخصية صريحة وكفوءة.
وكشف استطلاع للرأي أجرته مؤسسة يوغوف بين أعضاء في حزب المحافظين ونُشرت نتائجه الخميس أن بن والاس وزير الدفاع منذ 2019، سيفوز على جميع منافسيه الآخرين في حال إجراء انتخابات لاختيار زعيم محافظ جديد.
– بيني موردونت: كانت بيني موردونت (49 عامًا) وزيرة الدولة للتجارة الخارجية، وهي من الشخصيات المهمة في حملة بريكست في 2016 وعملت منذ ذلك الحين على التفاوض بشأن الاتفاقيات التجارية.
وتعرف موردونت التي خدمت في الاحتياط في البحرية الملكية، بمهارتها في الخطابة. وحسب استطلاعات للرأي، ارتفعت مؤخرًا شعبيتها بين المحافظين وتعتبر خيارا جديا كرئيسة للوزراء.
ويشير استطلاع الرأي الذي أجراه معهد يوغوف إلى أنها المرشحة الجدية الثانية لتولي قيادة الحزب، بعد بن والاس.
– ريشي سوناك: استقال وزير المال سوناك وهو أول سياسي من أصول هندية يتولى هذا المنصب، من الحكومة الثلاثاء في خطوة مفاجئة، وتضعه استقالته في صفوف المرشحين الأوفر حظا لخلافة جونسون، بعد أن تراجعت شعبيته بسبب ثروته والترتيبات الضريبية لزوجته الثرية التي أثارت استياء في خضم أزمة القدرة الشرائية.
وكان سوناك الذي هاجر أجداده من شمال الهند إلى المملكة المتحدة في الستينيات، محللًا في بنك غولدمان ساكس وعمل لاحقًا في صناديق مضاربة، ثم أصبح نائبا في عام 2015.
تولى سوناك المدافع عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والبالغ من العمر 42 عامًا منصب وزير المال في عام 2020 لكنه تعرض لانتقادات بسبب الإجراءات غير الكافية للجم ارتفاع الأسعار.
– ليز تروس: صراحتها واستعدادها للتدخل في الحروب الثقافية جعل وزيرة الخارجية ليز تروس تحظى بشعبية كبيرة لدى قاعدة حزب المحافظين. وقد حصلت تروس (46 عاما) على هذا المنصب الحساس مكافأة لعملها كوزيرة للتجارة الدولية.
وخلال وجودها في المنصب، أبرمت الأخصائية في التبادل الحر التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد الأوروبي قبل أن تنتقل إلى المعسكر الآخر، سلسلة اتفاقات تجارية بعد بريكست. وتثير مواقفها المتشددة بشأن الحرب في أوكرانيا أو تهديداتها بالانفصال عن اتفاق الاتحاد الأوروبي بشأن أيرلندا الشمالية إعجاب بعض المحافظين.
وقد نقلت صحيفة فايننشال تايمز عن مصادر، أن حزب المحافظين يعتزم تعيين رئيس وزراء جديد مطلع سبتمبر/ أيلول، مع عودة مجلس العموم للانعقاد.
مسيرة مضطربة
وكان جونسون قد وصل إلى السلطة قبل نحو 3 سنوات، وتعهد بإخراج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي وإنقاذها من المشاحنات المريرة التي أعقبت الاستفتاء على خروجها من التكتل عام 2016.
ومنذ ذلك الحين، دعم بعض المحافظين بحماس الصحفي ورئيس بلدية لندن السابق بينما أيده آخرون، رغم وجود تحفظات، لأنه كان قادرا على استمالة قطاعات من الناخبين الذين كانوا يرفضون حزبهم عادة.
وتأكد ذلك في انتخابات ديسمبر/كانون الأول 2019، لكن نهج إدارته القتالي والفوضوي في الحكم في كثير من الأحيان وسلسلة من الفضائح استنفدت رضا العديد من نوابه، بينما تُظهر استطلاعات الرأي أنه لم يعد يحظى بشعبية لدى عامة الشعب.
وغرقت قيادة جونسون في فضائح خلال الأشهر القليلة الماضية، إذ فرضت عليه الشرطة غرامة لانتهاكه قوانين الإغلاق المتعلقة بكوفيد-19، ونُشر تقرير دامغ حول سلوك المسؤولين في مكتبه في داوننغ ستريت الذين انتهكوا قواعد الإغلاق الخاصة بهم.
وفي أحدث فضيحة، اعتذر جونسون عن تعيين نائب في منصب حكومي، حتى بعد اطلاعه على أن هذا السياسي كان محور شكاوى تتعلق بسوء السلوك الجنسي.
وتغيرت رواية داوننغ ستريت عدة مرات حول ما كان يعرفه رئيس الوزراء عن السلوك السابق للسياسي، الذي أُجبر على الاستقالة، ومتى عرف ذلك. وألقى المتحدث باسمه باللوم على مشكلة في ذاكرة جونسون.
وبالإضافة إلى الفضائح، كانت هناك أيضا تحولات في السياسة، ودفاع عن مشرع انتهك قواعد جماعات الضغط، وانتقادات بأنه لم يبذل جهدا كافيا لمعالجة التضخم حيث يكافح العديد من البريطانيين للتعامل مع ارتفاع أسعار الوقود والغذاء.
وتأتي الأزمة في وقت يواجه فيه البريطانيون ضغوطا هي الأشد منذ عقود على أوضاعهم المالية، وذلك في أعقاب جائحة "كوفيد-19" والارتفاع المستمر للتضخم. ومن المتوقع أن يكون الاقتصاد البريطاني الأضعف بين الدول الكبرى في عام 2023 بعد روسيا.
كما تأتي بعد سنوات قليلة من انقسام داخلي أشعله تصويت محتدم في 2016 على مغادرة بريطانيا الاتحاد الأوروبي، وكذلك في مواجهة تهديدات تواجه تكوين المملكة المتحدة نفسها مع تزايد المطالب بإجراء استفتاء آخر على استقلال أسكتلندا والذي قد يكون الثاني خلال 10 سنوات.