سطر فلسطينيو الداخل المحتل على مدار تاريخ الصراع مع الاحتلال الإسرائيلي، دورًا نضاليًا بارزًا ومهمًا في مقاومة مخططاته الرامية إلى مصادرة أراضيهم، وطمس هويتهم وسلخهم عن قضيتهم الفلسطينية، من خلال هدم المنازل وبناء المستوطنات ومحاولات تهويد الإنسان.
ورغم محاولات الاقتلاع والتهجير المستمرة، وسياسة التهميش والتمييز العنصري، إلا أنهم استطاعوا أن يُسطروا أروع ملاحم الصمود والتحدي في إفشال المخططات الاحتلالية التي ترمي إلى بعثرتهم داخل مجتمع الاحتلال وإلغاء عروبتهم، واستمروا في النضال.
وما بين معركة تحصيل حقوقهم والبقاء وانتمائهم إلى شعبهم في الأراضي المحتلة والشتات، وتواصلهم مع العالم العربي كجزء منهم، خاض فلسطينيو 48 معركة طويلة في مواجهة الاحتلال ومخططاته.
معركة محورية
وشكل نضالهم امتدادًا للتراث النضالي العام للشعب الفلسطيني، وإن تميّز بخصوصية وضعهم تحت الاحتلال المباشر، إلا أنه كان جزءًا من حركة النضال الوطني.
فتمسكوا بأرضهم، وقدموا ستة شهداء في "يوم الأرض" عام 1976، حينما انتفضوا لأول مرة ضد مصادرة سلطات الاحتلال آلاف الدونمات من أراضي الجليل والمثلث والنقب، حتى بات هذا اليوم يشكل حدثًا محوريًا ومؤسسًا في الصراع على الأرض، وفي علاقتهم بالاحتلال.
وفي "الانتفاضة الأولى" التي اندلعت في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول عام 1987، شهدت مدن وبلدات الداخل مواجهات واحتجاجات وإضرابات تجارية وشاملة، تضامنا مع أبناء شعبهم في الضفة الغربية وقطاع غزة، واجهتها شرطة الاحتلال بالقمع والاعتقالات.
واختار فلسطينيو 48 مسارًا سلميًا لدعم الانتفاضة، وفضح ممارسات الاحتلال، كما سيّروا شاحنات إغاثية إلى مناطق الضفة والقدس وغزة، وقدموا الدعم المالي لعائلات الشهداء والأسرى.
ولم يتوقف دورهم النضالي عند ذلك، بل كانوا في طليعة المدافعين عن المسجد الأقصى المبارك والمرابطين فيه، عبر تسيير الحافلات من مدن وقرى الداخل إلى مدينة القدس، ومن المواجهين لمخططاته التهويدية في القدس المحتلة.
ففي 25 أيلول/ سبتمبر 1996، شارك فلسطينيو 48 في "هبة النفق" التي تفجرت بعد الإعلان عن افتتاح نفق إسرائيلي أسفل الجدار الغربي للمسجد الأقصى بطول 330 مترًا، فانصهرت جميع فئات الشعب الفلسطيني في بوتقة المواجهة والتصدي لقوات الاحتلال.
وامتدت المواجهات من شمال فلسطين إلى الضفة وغزة، واستمرت لمدة ستة أشهر، واجهتها قوات الاحتلال بإطلاق الرصاص المطاطي والحي بكثافة، كما استخدمت الطائرات المروحية والدبابات، ما أدى لاستشهاد نحو 100 فلسطيني، وإصابة 1600 آخرين.
فشل محاولات أسرلتهم
وواصل فلسطينيو الداخل نضالهم ضد الاحتلال، وقدموا 13 شهيدًا في "هبة أكتوبر" التي اندلعت مطلع أكتوبر/تشرين الأول عام 2000، احتجاجًا على اقتحام رئيس وزراء الاحتلال الأسبق أرئيل شارون المسجد الأقصى برفقة قوات كبيرة من جيش الاحتلال.
وكان لهم دورًا مهمًا في معركة "البوابات الإلكترونية" التي وضعتها شرطة الاحتلال على مداخل المسجد الأقصى في 14 تموز/ يوليو 2017، بعد تنفيذ ثلاثة شبان من مدينة أم الفحم في الداخل عملية إطلاق نار أدت إلى مقتل شرطيين إسرائيليين وإصابة آخر.
وبعد اعتصام وحراك شعبي شارك به المقدسيون وأهالي الداخل لمدة 14 يومًا عند أسوار البلدة القديمة وأبواب الأقصى، اضطر الاحتلال للتراجع عن القرار وأزال البوابات الإلكترونية.
وفي مطلع أيار/ مايو 2021، شهدت مدن وبلدات الداخل مظاهرات احتجاجية غاضبة ضد العدوان الإسرائيلي على حي الشيخ جراح بالقدس، والمسجد الأقصى، وقطاع غزة، والتي عرفت بـ"هبة الكرامة".
واندلعت مواجهات عنيفة مع شرطة الاحتلال، بسبب إرهاب المستوطنين المتطرفين، ما أسفر عن استشهاد شابين من أم الفحم واللد، وإصابة المئات، واعتقال نحو 2800 فلسطيني من الداخل، وفرض الإقامة الجبرية على العشرات في معركة بقيت دون حسم.
وما ميز هذه الهبة الشعبية هروب عائلات يهودية من مدينة اللد، بسبب المواجهات، وبعدما فقدت شرطة الاحتلال السيطرة على الأوضاع في المدينة.
وأثبتت الهبة الفشل الذريع لمحاولات أسرلة وصهينة الجيل الفلسطيني بالداخل، رغم كل الأساليب الممنهجة لنزع وطنيتهم وهويتهم من خلال المناهج والرواية الصهيونية المزورة، والإعلام الموجه ومحاولة دمجهم وكي وعيهم.
وما زال فلسطينيو 48 ينظمون مظاهرات وهبات شعبية في القرى والبلدات المدمرة، تأكيدًا على التشبث بالأرض، وما حدث في النقب مطلع كانون ثاني/ يناير المنصرم إلا دليلًا على ذلك.
ويشهد النقب هبة شعبية ضد الهجمة الإسرائيلية التي يتعرض لها منذ ما يزيد عن 3 أشهر، لتجريف وتحريش أراضيه، بهدف تمرير مخططات الاحتلال الاقتلاعية وتهجير سكانه الأصليين.
ورغم ما يواجهونه من تمييز عنصري يطال غالبية مناحي حياتهم، إلا أنهم ما زالوا يشكلون شوكة في حلق الاحتلال، ويقودون معركة البقاء والتصدي لسياسة التمييز والعنصرية، وتجريدهم من حقهم في السكن والمساواة.
محطات فارقة
نائب رئيس الحركة الإسلامية في الداخل الشيخ كمال الخطيب يقول لوكالة "صفا" إن فلسطينيي 48 شكلوا محطات فارقة في مواجهة الاحتلال ومشاريعه الاستيطانية والتهويدية، رغم حالة الانقطاع التي شكلتها النكبة قبل 74 عامًا، ما بين 150 ألف فلسطيني ممن بقوا في الداخل، وعموم أبناء الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية.
ويضيف أن "هؤلاء الفلسطينيين مُورست بحقهم الكثير من المشاريع، لمحاولة مسح هويتهم، وحرف بوصلتهم الوطنية والدينية والقومية، واعتبر قادة الاحتلال أن الخطأ الاستراتيجي الكبير في تاريخ دولة إسرائيل هو إبقاؤهم في الداخل وعدم تهجيرهم، خاصة مع بلوغ عددهم اليوم قرابة مليون و700 ألف فلسطيني".
وشكلت أحداث النكسة عام 1967، واحتلال الأراضي الفلسطينية، بما فيها مدينة القدس، بداية التواصل ما بين فلسطينيي الداخل وأبناء شعبهم في الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة.
وما ميز دور فلسطينيي 48، أحداث يوم الأرض قبل 46 عامًا، والتي شكلت محطة فارقة في النضال الفلسطيني، إذ قدموا شهداءً لأول مرة، من خلال موقف الدفاع عن الأرض والوقوف أمام مشاريع الاستيطان والمصادرة الإسرائيلية، وفق ما يرى الخطيب.
لكن الدور الأبرز– وفقًا للخطيب- تمثل في المسجد الأقصى والقدس، والوقوف أمام مشاريع الاحتلال وأعمال الحفريات أسفله، من خلال رفع شعار "الأقصى في خطر"، وقيام مؤسسات وجمعيات الحركة الإسلامية، التي تم حظرها، بدعم الأقصى وأعمال الترميم والرباط فيه، ما أفشل مخطط التقسيم الزماني والمكاني الذي كانت تسعى إليه سلطات الاحتلال.
ويوضح أن ما حصل في العام 2000 خلال "انتفاضة الأقصى"، ومشاركة أبناء الداخل فيها، ما أدى لاستشهاد 13 مواطنًا، كان له دلالة واضحة في دور فلسطينيي الداخل والتحامهم مع أبناء شعبهم، ومواجهة مشاريع الأسرلة الإسرائيلية لمسح الهوية.
ويتابع "ويتجدد في كل مرة المواقف التي يُثبت من خلالها أبناء الداخل أنهم جزء لا يتجزأ من أبناء الشعب الفلسطيني، وأنهم غصن من هذه الشجرة الممتدة في القدس والضفة وغزة والشتات، والمخيمات الفلسطينية العربية المجاورة".
ويؤكد أن فلسطينيي 48 سيبقون متمسكين بأرضهم وهويتهم كل يوم، وتحديدًا في ظل معركة النقب والحفاظ على هويته، "لذلك كانت الرسالة أن يُعقد مهرجان يوم الأرض هذا العام في النقب، تأكيدًا على هويته وموقعه في قلوب أبناء الداخل".
ويوجه الخطيب رسالة للاحتلال، قائلًا: "رسالتنا كانت وستظل أننا أبناء هذه الأرض وأصحابها، هنا ولدنا وسنموت، ونحن لسنا دخلاء ولا عابرين، ومصير هذه الأرض لن تقرره قوة إسرائيلية غاشمة مهما كانت، لأن الحق سيظل أقوى من كل قوى الأرض".